الشيطان، فقال : إنَّ هذا الصَّوت ليس من الله تعالى، بل من الشيطانِ يسخر منك، فلمَّا شكَّ زكريَّا قال :" ربّ، أني يكُون لي غلامٌ "، وغرض السدي من هذا أن زكريا - عليه السلام - لو علم أن المبشَّر بذلك هو الله تعالى، لما جاز له أن يقول ذلك، فارتكب هذا.
وقال بعضُ المتكلِّمين : هذا باطلٌ باتِّفاق ؛ إذ لو جوَّز الأنبياءُ في بعض ما يردُ عن الله تعالى أنَّه من الشيطان، لجوَّزوا في سائره، ولزالتِ الثقة عنهم في الوحي، وعنَّا فيما يوردُونه إلينا.
ويمكنُ أن يجاب عنه : بأنَّ هذا الاحتمال قائمٌ في أوَّل الأمر، وإنَّما يزولُ بالمعجزةِ، فلعلَّ المعجزةَ لم تكُن حاصلةً في هذه الصور، فحصل الشَّك هنا فيه دون ما عداها.
والجوابُ عن السؤال الثاني من وجوه : الأول : أن قوله :﴿إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسْمُهُ يَحْيَى ﴾.
ليس نصًّا في كون ذلك الغلام ولداً له، بل يحتمل أن يكون زكريَّا - عيله الصلاة والسلام - راعى الأدب، ولم يقل : هذا الغلام، هل يكون ولداً لي، أم لا، بل ذكر أسباب حُصُول الولدِ في العادة ؛ حتى أنَّ تلك البشارة، إنْ كانت بالولد، فإن الله تعالى يزيلُ الإبهام، ويجعل الكلام صريحاً، فلمَّا ذكر ذلك، صرَّح الله تعالى بكون الولد منه، فكان الغرضُ من كلام زكريَّا هذا، لا شك أنه شاكًّا في قُدرة الله تعالى عليه.
الثاني : أنه ما ذكر ذلك للشك، لكنْ على وجه التعظيم لقدرته، وهذا كالرجل الذي يَرَى صاحبه قد وهب الكثير الخطير، فيقول : أنَّى سمحت نفسك بإخراج مثل هذا من ملكك! تعظيماً وتعجُّباً.
الثالث : أن من شأن من بُشِّرَ بما يتمناه ؛ أن يتولد له فرط السرور به عند أوَّل ما يرد عليه استثباتُ ذلك الكلام ؛ إما لأن شدة فرحه به توجبُ ذهوله عن مقتضيات العقل والفكر، وهذا كما أن امرأة إبراهيم عليه السلام بعد أن بشرت بإسحاق قالت ﴿قَالَتْ يا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـاذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَـذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ﴾ [هود : ٧٢] فأزيل تعجبها بقوله :﴿أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ [هود : ٧٣]، وإما طلباً لالتذاذ بسماع ذلك الكلام مرة أخرى، وإما مبالغةً في تأكيد التفسير.
قوله :" كَذِلكَ " : في محلِّ هذه الكاف وجهان : أحدهما : أنه رفع على خبر ابتداءٍ مضمرٍ، أي : الأمرُ كذلك، ويكون الوقفُ على :" كَذَلِكَ "، ثم يبتدأ بجملةٍ أخرى.
٢٠
والثاني : أنها منصوبةُ المحلِّ، فقدَّرهُ أبو البقاء بـ " أفْعَلُ " مثل ما طلبتَ، وهو كنايةٌ عن مطلوبه، فجعل ناصبه مقدَّراً، وظاهره أنه مفعولٌ به.
وقال الزمخشريُّ :" أو نصب بـ " قَالَ " و " ذَلِكَ " إشارةٌ إلى مُبْهم يفسره " هُو عليَّ هيِّنٌ "، ونحوه :﴿وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ﴾ [الحجر : ٦٦].
وقرأ الحسن " وهُوَ عليَّ هيِّنٌ "، ولا يخرَّج هذا إلا على الوجه الأول، أي : الأمرُ كما قلت، وهو على ذلك يُهونُ عليَّ.
وجهٌ آخرُ : وهو أن يُشارَ بـ " ذَلِكَ " إلى ما تقدَّم من وعد الله، لا إلى قولِ زكريَّا، و " قَالَ " محذوفٌ في كلتا القراءتين.
يعني قراءة العامَّة وقراءة الحسنِ - أي : قال : هُوَ عليَّ هيِّنٌ، قال : وهُوَ عليَّ هيِّنٌ، وإن شئت لمْ تنوهِ ؛ لأنَّ الله هو المخاطب، والمعنى أنه قال ذلك، ووعدهُ وقوله الحقُّ ".
وفي هذا الكلام قلقٌ ؛ وحاصله يرجع إلى أنَّ " قال " الثانية هي الناصبةُ للكاف.
وقوله :" وقَالَ محذوفٌ " يعني تفريعاً على أنَّ الكلام قد تمَّ عند " قال ربُّك " ويبتدأ بقوله :" هُوَ عليَّ هيِّنٌ ".
وقوله :" وإنْ شِئْتَ لمْ تَنْوهِ "، أي : لم تَنْوِ القول المقدَّر ؛ لأنَّ الله هو المتكلِّمُ بذلك.
وظاهرُ كلام الطبريُّ :" ومعنى قوله " قال كذلكَ " أي : الأمران اللذان ذكرت من المرأةِ العاقر والكبرِ هو كذلك، ولكن قال ربُّك، والمعنى عندي : قال الملكُ : كذلك، أي : على هذه الحال، قال ربُّك، هو عليَّ هيِّنٌ " انتهى.
وقرأ الحسن البصري " عَلَيَّ " بكسر ياء المتكلم ؛ كقوله [الطويل] ٣٥٨٢ أ - عَليِّ لعمرٍو نِعْمَةٍ
لِوَالِدِهِ ليْسَتْ بذاتِ عقَارِبِ
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ١٦
أنشدوه بالكسر.
وتقدم الكلام على هذه المسألة في قراءة حمزة " بمُصْرِخيِّ " [إبراهيم : ٢٢].
قوله :" وقَدْ خلقْتُكَ " هذه الجملة مستأنفةٌ، وقرأ الأخوان " خَلقْنَاكَ " أسنده إلى الواحد المعظِّمِ نفسهُ، والباقون " خلقْتُك " بتاء المتكلِّم.
وقوله :" ولَمْ يَكُ شَيْئاً " جملةٌ حاليةٌ، ومعنى نفي كونه شيئاً، أي : شيئاً يعتدُّ به ؛ كقوله :[البسيط]
٢١
٣٥٨٢ ب -...............................
إذا رَأى غيْر شيءٍ ظنَّهُ رَجُلا