وقالوا : عجبتُ من لا شيءٍ، ويجوز أن يكون قال ذلكَ ؛ لأنَّ المعدومَ ليس بشيءٍ.
فصل قيل : إطلاق لفظ " الهَيِّن " في حق الله تعالى مجاز ؛ لأن ذلك إنما يجوزُ في حقِّ من يجوز أن يصعب عليه شيء، ولكن المراد ؛ أنه إذا أراد شيئاً كان.
ووجه الاستدلال بقوله تعالى ﴿وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً﴾ فنقول : إنه لما خلقه من العدم الصَِّرف والنفي المحضِ، كان قادراً على خلق الذوات والصفات والآثار، وأما الآن، فخلق الولد من الشيخ والشيخة لا يحتاج فيه إلا إلى تبديل الصفات، وإذا أوجده عن العدم، فكذا يرزقه الولد بأن يعيد إليه وإلى صاحبته القوَّة التي عنها يتولَّد الماءان اللذان من اجتماعهما يُخلقُ الولد.
فصل الجمهورُ على أنَّ قوله :" قال : كذلِكَ قال ربُّكَ " يقتضي أن القائلَ لذلك ملك مع الاعتراف بأن قوله ﴿يا زَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ﴾ قول الله تعالى، وقوله ﴿هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾ قول الله تعالى، وهذا بعيدٌ ؛ لأنه إذا كان ما قبل هذا الكلام وما بعده قول الله تعالى، فكيف يصحُّ إدرتجُ هذه الألفاظ فيما بين هذين القولين، والأولى أن يقال : قائلُ هذا القول أيضاً هو الله تعالى ؛ كما أن الملك العظيم، إذا وعد عبده شيئاً عظيماً، فيقول العبد : من أين يحصلُ لي هذا، فيقول : إن سلطانكَ ضمِنَ لك ذلك ؛ كأنه ينبه بذلك على أن كونه سلطاناً ممَّا يوجب عليه الوفاء بالوعد، فكذا ههنا.
قوله :﴿قَالَ رَبِّ اجْعَل لِى آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً﴾.
أي : اجعل لي علامة ودلالة على حمل امرأتي.
فصل قال بعضُ المفسِّرين : طلب الآية لتحقيق البشارة، وهذا بعيدٌ ؛ لأن بقول الله تعالى قد تحقَّقت البشارةُ، فلا يكون إظهار الآية أقوى في ذلك من صريح القول، وقال آخرون : البشارةُ بالولدِ وقعت مطلقة، فلا يعرف وقتها بمجرَّد البشارة، فطلب الآية ليعرف بها وقت الوقوعِ، وهذا هو الحق.
٢٢
واتفقوا على أن تلك الآية هي تعذرُ الكلام عليه، فإن مجرَّد السكوتِ مع القدرةِ على الكلام لا يكونُ معجزةً، ثم اختلفوا على قولين : أحدهما : أنه اعتقل لسانه أصلاً.
والثاني : أنه امتنع عليه الكلامُ مع القوم على وجه المخاطبة، مع أنه كان متمكناً من ذكر الله، ومن قراءة التوراة، وهذا القولُ عندي أصحُّ ؛ لأن اعتقال اللسان مطلقاً قد يكون لمرضٍ، وقد يكون من فعل الله، فلا يعرف زكريا عليه السلام أن ذلك الاعتقال معجزٌ إلا إذا عرف أنه ليس لمرض، بل لمحضِ فعل الله تعالى مع سلامة الآلات، وهذا مما لا يعرف إلا بدليل آخر، فتفتقر تلك الدلالة إلى دلالة أخرى، أما لو اعتقل لسانه عن الكلام، مع القوم، مع اقتداره على التكلم بذكر الله تعالى وقراءةِ التوراةِ، علم بالضرورة ؛ أن ذلك الاعتقال ليس لعلَّةٍ ومرضٍ، بل هو لمحض فعل الله، فيتحقق كونه آية ومعجزة، ومما يقوي ذلك قوله تعالى :﴿آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً﴾ خص ذلك بالتكلم مع الناس ؛ وهذا يدلُّ بطريق المفهوم ؛ أنه كان قادراً على التكلم مع غير الناس.
قوله :" سَوِيًّا " : حالٌ من فاعل " تُكَلِّمَ "، وعنابن عباس : أنَّ " سويًّا " من صفةِ الليالي بمعنى " كاملات "، فيكونُ نصبه على النعت للظرف، والجمهورُ على نصب ميم " تُكَلِّم " جعلوها الناصبة.
وابن أبي عبلة بالرفع، جعلها المخففة من الثقيلة، واسمها ضميرُ شأنٍ محذوف، و " لا " فاصلةٌ، وتقدَّم تحقيقه.
وقوله :" أنْ سَبَّحُوا " : يجوز في " أنْ " أن تكون مفسِّرة لـ " أوْحَى "، وأن تكون مصدرية مفعولة بالإيحاء، و " بُكْرَةً وعشِيًّا " ظرفا زمانٍ للتسبيح، وانصرفت " بُكْرَةً " ؛ لأنه لم يقصدْ بها العلميَّةُ، فلو قُصِدَ بها العلميةُ امتنعت من الصَّرف، وسواءٌ قصد بها وقتٌ بعينه ؛ نحو : لأسيرنَّ الليلة إلى بكرة، أم لم يقصد ؛ نحو : بكرةُ وقتُ نشاطٍ ؛ لأنَّ علميَّتها جنسيَّةٌ ؛ كأسامة، ومثلها في ذلك كله " غُدوة ".
وقرأ طلحة " سَبِّحُوه " بهاءِ الكناية، وعنه أيضاً :" سَبِّحُنَّ " بإسناد الفعل إلى ضمير الجماعة مؤكِّداً بالثقيلة، وهو كقوله :﴿لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ﴾ [هود : ٨]، وقد تقدَّم تصريفه.
قوله تعالى :﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ﴾، وكان الناس من وراء المحراب ينتظرونه ؛ أن يفتح لهم الباب، فيدخلون ويصلون ؛ إذ خرج عليهم زكريا متغيِّراً لونه، فانكروه، فقالوا : ما لك يا زكريا ﴿فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ﴾.
قال مجاهدٌ : كتب لهم الأرض، ﴿أَن سَبِّحُواْ﴾، أي صلوا لله، ﴿بُكْرَةً﴾، غدوة، ﴿وَعَشِيّاً﴾، معنا أنه كان يخرج على قومه بكرة وعشياً، فيأمرهم بالصلاة، فلما كان وقتُ حمل امرأته، ومنع الكلام خرج إليهم، فأمرهم بالصلاة إشارة.
قوله عز وجل :﴿يا يَحْيَى ﴾، قيل : فيه حذف معناه : وهبنا له يحيى، وقلنا له : يا يحيى، ﴿خُذِ الْكِتَابَ﴾، يعني التوراة، وقيل يحتمل أن يكون كتابتً خصَّ الله به يحيى،
٢٣


الصفحة التالية
Icon