كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران : ١٥٩].
وقيل : الجبَّار : هو الذي لا يرى لأحدٍ على نفسه حقًّا.
وقيل غير [ذلك] وقوله :" عصيا " وهو أبلغُ من العاصي، كما أن العليمَ أبلغُ من العالم.
قوله :﴿وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً﴾.
قال محمد بن جرير الطبريُّ ﴿وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ﴾ أي : أمانٌ من الله يوم ولد من أن تتناوله الشياطين، كما تناولُ سائر بني آدم ﴿وَيَوْمَ يَمُوتُ﴾ أي : وأمانٌ عليه من عذاب القبر، ﴿وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً﴾ ي : ومن عذاب يوم القيامة.
وقال سفيان بن عيينة : أوحشُ ما يكونُ الإنسان في هذه الأحوال [الثلاثة يوم يُولَدُ]، فيرى نفسه خارجاً [مما كان فيه، ويوم يموتُ، فيرى يوماً، لم يكن عاينهُ، ويوم يبعثُ، فيرى نفسهُ] في محشرٍ عظيمٍ، لم ير مثله، فأكرم الله يحيى - عليه السلام - فخصَّه بالسلامة في هذه المواطن الثلاثة.
قال عبدُ الله بن نفطويه :﴿وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ﴾ أي : أوَّل ما رأى الدُّنيا، ﴿وَيَوْمَ يَمُوتُ﴾ أي : أول يوم يرى فيه أمْرً الآخرة ﴿وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً﴾ أوَّل يومٍ يرى فيه الجنَّة والنَّار.
فصل في مزية السلام على يحيى السلام يمكن أن يكون من الله، وأن يكون من الملائكة، وعلى التقديرين، فيدلُّ على شرفه وفضله ؛ لأنَّ الملائكة لا يسَلَِّمون إلا عن أمر الله.
ويدلُّ على أن ليحيى مزية في هذا السلام على ما لسائر الأنبياء ؛ كقوله تعالى :﴿سَلاَمٌ عَلَى نُوحٍ﴾ [الصافات : ٧٩] ﴿سَلاَمٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ [الصافات : ١٠٩].
وقال ليحيى :﴿يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً﴾.
وليس لسائر الأنبياء.
ورُوِي أن عيسى - عليه السلام - قال ليحيى - عليه السلام - : أنت أفضلُ منِّي ؛ لأنَّ الله تعالى قال : سلامٌ عليك وأنا سلَّمتُ على عيسى ؛ لأن عيسى معصومٌ، لا يفعل إلا ما أمره الله به.
واعلم : أنَّ السَّلام عليه يوم ولد يكون تفضُّلاً من الله تعالى ؛ لأنه لم يتقدَّمه عملٌ يكونُ ذلك السلام جزاءً له، وأمَّا السَّلام عليه يوم يموتُ، ويوم يبعثُ حيَّاً، عملٌ يكونُ ذلك السلام جزاءً له، وأمَّا السَّلام عليه يوم يموتُ، ويوم يبعثُ حيًّاـ فيجوزُ أن يكُون ثواباً ؛ كالمَدْح والتَّعْظِيم.
٢٨
فصل في فوائد هذه القصة في فوائد هذه القصَّة [أمورٌ] منها : تعليمُ آداب الدعاء، وهو قوله :" نِدَاءً خفيًّا " يدلُّ على أفضل الدعاء خفيةً ويؤكِّدهُ قوله تعالى :﴿ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً﴾ [الأعراف : ٥٥] ؛ ولأنَّ رفع الصوت مشعرٌ بالقوَّة والجلادةِ، وإخفاءُ الصوت مشعرٌ بالضعف والانكسار، وعمدة الدُّعاء الانكسار والتبرِّي عن حول النَّفس وقوَّتها، والاعتمادُ على فضل الله تعالى وإحسانه.
ويستحبُّ أن يذكر في مقدِّمة الدعاء عجز النَّفس وضعفها ؛ كقوله :﴿وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً﴾ ثم يذكر نعم الله تعالى ؛ كقوله :﴿وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً﴾ ويكون الدعاء لما يتعلق بالدين لا لمحض الدنيا، كقوله :﴿وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ﴾ وأن يكون الدُّعاء بلفظ : يا ربِّ.
كما ذكر فيها بيان فضل زكريَّا، ويحيى - عليهما السلام - أما زكريَّا ؛ فلتضرُّعه وانقطاعه إلى الله تعالى بالكليَّة، وإجابة الله تعالى دعاءه، وأن الله تعالى بشَّره، وبشَّرته الملاشكةُ، واعتقالُ لسانه عن الكلام دُون التَّسبيح.
وأمَّا يحيى ؛ فلأنَّه لم يجعل له من قبلُ سميًّا، وقوله ﴿يا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً﴾، وكونه رحيماً حناناً وطاهراً، وتقيًّا، وبرًّا بوالديه، ولم يكن جبَّاراً، ولم يعص قطٌّ، ولا همَّ بمعصية، ثم سلَّم عليه يوم ولد، ويوم يموتُ، ويوم يبعثُ حيًّا.
ومنها : كونُه تعالى قادراً على خلق الولد، وإن كان الأبوان في نهاية الشيخوخة ردًّا على أهل الطَّبائع.
ومنها : أن المعدوم ليس بشيءٍ ؛ لقوله :﴿وَلَمْ تَكُ شَيْئاً﴾.
فإن قيل : المرادُ " ولم تَكُ شيئاً مَذْكُوراً " كما في قوله :﴿هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً﴾ [الإنسان : ١].
فالجوابُ : أنَّ الإضمار خلافُ الأصل، وللخصم أن يقول : الآيةُ تدلُّ على أن الإنسان لم يكُن شيئاً مذكوراً، ونحنُ نقولُ به ؛ لأنَّ الإنسانَ عبارة عن جواهر متألِّفة قامت بها أعراضٌ مخصوصةٌ، والجواهرُ المتألِّفة الموصوفة بالأغراض المخصوصة ليس ثابتة في العدمِ، وإنَّما الثابتُ هو [أعيانُ] تلك الجواهر مفردة غير مركَّبة، وهي ليست بالإنسان، فظهر أن الآية لا دلالة فيها على المطلوب.
ومنها أن الله تعالى ذكر هذه القصة في " آل عمران "، وذكرها في هذه السورة، فلنعتبر حالها في الموضعين، فنقول : إن الله تعالى بيَّن في هذه السورة أنه دعا ربه، ولم يبين الوقت، وبينه في " آل عمران " بقوله
٢٩


الصفحة التالية
Icon