والمعنى : اعتزلت، وهو في بطنها ؛ كقوله :﴿تَنبُتُ بِالدُّهْنِ﴾ [المؤمنون : ٢٠] أي : تنبتُ، والدُّهْنُ فيها.
﴿مَكَاناً قَصِيّاً﴾ : بعيداً من أهلها.
قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - : أقصى أقصى الوادي، وهو وادي بيت لحم ؛ فراراً من قومها أن يُعَيِّروها بولادتها من غير زوج.
واختلفوا في علَّة الانتباذِ ؛ فروى الثعلبيُّ في " العَرَائِسِ " عن وهب قال : إنَّ مريم لمَّا حملتْ بعيسى - صلوات الله عليه - كان معها ابن عمٍّ لها يُسمَّى " يُوسُفَ النَّجَّار "، وكانا منطلقين إلى المسجد الذي عند " جَبَلِ صُهْيُون "، وكانت مريمُ ويوسفُ يخدمان ذلك المسجدَ، ولا يعلمُ من أهل زمانهما أحدٌ أشدُّ اجتهاداً منهما، وأوَّلُ من عرف حمل مريم يوسفُ، فتحير في أمرها، فكلَّما أراد أن يتَّهمها، ذكر صلاحها، وعبادتها، وأنَّها لم تغبْ عنه ساعةً قطُّ ؛ فقال : إنَّه قد وقع في نفسي من أمرِك شيءٌ، وقد حرصتُ على كتمانِهِ، فغلبني ذلك، فرأيتُ أنَّ الكلام فيه أشفى لصدْرِي فقالت : قُلْ قَوْلاً جَمِيلاً.
قال : أخبرني يا مريمُ، هَلْ يَنْبُتُ زَرْعٌ بِغَيْرِ بِذْرٍ ؟ وهلْ تَنْبُتُ شَجَرةٌ من غَيْرِ غَيْثٍ ؟ وهَلْ يَكُونُ ولدق من غَيْرِ ذكرٍ ؟ قالتْ : نَعَمْ، ألَمْ تَعْلَمْ أنَّ الله تعالى أنْبَتَ الزَّرْعَ يوْمَ خلقهُ مِنْ غَيْرِ بَذْرٍ، وهذا البَذْرُ إنَّما حصل مِنَ الذي أنْبَتَهُ من غَيْرِ بَذْرٍ.
ألم تعلم أنَّ الله أنْبتَ الشَّجَرَةَ بغير غَيْثٍ، وبالقُدْرَةِ جعل الغَيْثَ حياةُ الشَّجرةِ، بعدمَا خَلَقَ الله كُلَّ واحدٍ مِنْها على حدةٍ ؟ أو تقُول : إنَّ الله لا يقدرُ على أنْ يُنْبِتَ الشَّجرة حتَّى استعان بالماءِ، ولوْلاَ ذلكَ، لَمْ يَقْدِرْ على إنباتها ؟ !.
قال يُوسفُ : لا أقُولُ هذا، ولكنِّي أقُولُ : إنَّ الله تعالى قادرٌ على مَا يَشَاءُ، فيقُول : كُنْ فَيَكُونَ، فقالت لهُ مريمُ : أو لَمْ تعلمْ أنَّ خلق آدَمَ وامْرأتهُ حوَّاء من غير ذكرٍ، ولا
٣٧
أنثى، فعندهُ زالتِ التُّهْمَةُ عن قلبهِ، وكان ينُوبُ عنها في خدمةِ المسجدِ ؛ لاستيلاءِ الضَّعْف عليها ؛ بسبب الحَمْلِ، وضيق القَلْبِ، فلمَّا قرُبَ نفاسُها، أوحى الله تعالى إليها أن اخْرُجي من أرض قومكِ ؛ لئلاَّ يقتُلُوا ولدكِ، فاحتملها يوسفُ إلى أرْضِ مِصْر على حمار لهُ، فلمَّا بلغتْ تلك البلادَ، وأدْركهَا النِّفاسُ، فألجأها إلى أصلِ نخلةٍ، وذلك في زمانِ بردٍ، فاحتضنتها، [فوضعت] عندها.
وقيل : إنَّها استحيت من زكريَّا، فذهبت إلى مكانٍ بعيدٍ، لئلاَّ يعلم بها زكريَّا، صلوات الله عليه -.
وقيل : لأنَّها كانَتْ مشهورةً في بني إسرائيل بالزُّهدِ ؛ لنذْرِ أمِّهَا، وتشاجَّ النبياءِ في تربيتها، وتكفُّل زكريَّا بِهَا، وكان الرِّزْقُ يأتيها من عند الله تعالى، فلمَّا كانت في نهايةِ الشُّهرةِ اسْتَحيتْ من هذه الواقعةِ، فذهَبتْ إلى مكانٍ بعيدٍ.
وقيل : ثمانية أشهر، وكان ذلك آية أخرى ؛ لأنَّه لم يعش ولدٌ لثمانية أشهر إلاَّ - عيسى - صلوات الله عليه -.
وقيل : لأنَّها كانَتْ مشهورةً في بني إسرائيل بالزُّهدِ ؛ لنذْرِ أمِّهَا، وتشاحَّ النبياءِ في تربيتها، وتكفُّل زكريَّا بِهَا، وكان الرِّزْقُ يأتيها من عند الله تعالى، فلمَّا كانت في نهايةِ الشُّهرةِ اسْتَحْيتْ من هذه الواقعةِ، فذهَبتْ إلى مكانٍ بعيدٍ.
وقيل : خافت على ولدها من القَتْل، لو ولدته بين أظهرهم.
وكلُّ هذه الوجُوهِ محتملةٌ، وليس في القرآن ما يدلُّ على شيءٍ منها.
فصل في بيان حمل مريم اختلفُول في مدَّة حملها، فرُوي عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - أنَّها تسعة أشهر ؛ كسائر النسِّاء في الغالب.
وقيل : ثمانية أشهر، وكان ذلك آية أخرى ؛ لأنَّه لم يعش ولدٌ يولدُ لثمانية أشهر إلاَّ عيسى " صلوات الله عليه -.
وقال عطاءٌ، وأبو العالية، والضحاك : سبعةُ أشهر وقيل : ستَّةُ أشهر.
وقال مقاتلُ بنُ سليمان : ثلاثُ ساعاتٍ، حملت به في ساعةٍ، وصُوِّر في ساعةٍ، ووضعته حين زالتِ الشَّمْسِ من يومها.
وقال ابنُ عبَّاس : كان الحَمْل والولادةُ في ساعةٍ واحدة، ويدلُّ عليه وجهان : الأول : قوله :﴿فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ﴾ ﴿فَأَجَآءَهَا الْمَخَاضُ﴾ ﴿فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ﴾، والفاء : للتعقيب ؛ فدلَّت هذه الفاءاتُ على أنَّ كلَّ واحدٍ من هذه الأحوال حصل عقيبَ الآخَرِ من غير فصْلٍ ؛ وذلك يوجبُ كون مدَّة الحَمْل ساعةً واحدة لا يقال : انتباذها مكاناً قصيًّا كيف يحصُل في ساعةٍ واحدةٍ ؛ لأنَّا نقول : السُّدي فسَّر بأنَّها ذهبت إلى أقصى موضع في جانب محرابها.
الثاني : أنَّ الله تعالى قال في وصفه {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ
٣٨