ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [آل عمران : ٥٩]، فثبت أن عيسى - صلواتُ الله عليه - كما قال الله تعالى :" كُنْ " فكان، وهذا مما لا يتصوَّر فيه مدَّةُ الحمل، إنَّما يتصوَّر مُدَّة الحمل في المتولِّد عن النُّطفة.
والقَصيُّ : البعيدُ.
يقال : مكانٌ قاصٍ، وقَصِيٌّ بمعنى واحدٍ ؛ مثل : عاصٍ وعَصِيٍّ.
قوله تعالى :﴿فَأَجَآءَهَا﴾ : الأصلُ في " جَاءَ " : أنْ يتعدَّى لواحدٍ بنفسه، فإذا دلت عليه الهمزة، كان القياسُ يقتضي تعدِّه لاثنين، قال الزمخشريُّ :" إلاَّ أنَّ استعماله قد تغيَّر بعد النَّقْل إلى معنى الإلجاء، ألا تراك لا تقول : جئتُ المكانَ، وأجاءنيه زيدٌ ؛ كما تقولُ : بلغتهُ وأبلغنيه، ونظيرهُ " آتى " حيثُ لم يستعمل إلا في الإعطاء، ولم تقل : أتيتُ المكان وآتانيه فلانٌ ".
وقال أبو البقاء : الأصلُ " جَاءَهَا " ثم عُدِّي بالهمزة إلى مفعولٍ ثانٍ، واستعمل بمعنى " ألْجَأها ".
قال أبو حيَّان : قوله : إنَّ " أجَاءَهَا " [استعمل] بمعنى " ألْجَأهَا " يحتاجُ إلى نقل أئمةِ اللغة المستقرئين لذلك من لسانِ العرب، والإجاءةُ تدلُّ على المُطلقِ، فتصلحُ لما هو بمعنى " الإلْجَاءِ " ولما هو بمعنى " الاختيار " كما تقول :" أقَمْتُ زَيْداً " فإنه يصلحُ أن تكون إقامتك لهُ قَسْراً أو اختياراً، وأمَّا قوله :" ألا تراكَ لا تقُولُ " إلى آخره، فمن رأى أنَّ التعدية بالهمزة قاسٌ، أجاز ذلك، وإن لم يسمعْ، ومن منع، فقد سمع ذلك في " جَاءَ " فيجيزُ ذلك، وأمَّا تنظيهُ ذلك بـ " أتى " فليس تنظيراً صحيحاً ؛ لأنَّه بناهُ على أنَّ همزته للتعدية، وأنَّ أصله " آتى " بل " آتى " ممَّا بُنِي على " أفْعَل " ولو كان منقولاً من " أتى " المتعدِّي لواحد، لكان ذلك الواحدُ هو المفعول الثاني، والفاعل هو الأوَّل، إذا عدَّيته بالهمزة، تقولُ :" أتى المالُ زيداً " و " آتى عمروٌ زيداً المالَ " فيختلفُ التركيبُ بالتعدية ؛ لأنَّ " زَيْداً " عند النحويِّين هو المفعول الأول، و " المال " هو المفعولُ الثاني، وعلى ما ذكره الزمخشريُّ، كان يكون العكس، فدلَّ على أنَّه ليس ما قاله، وأيضاً، فـ " أتى " مرادفٌ لـ " أعْطَى "، فهو مخالفٌ من حيثُ الدلالة في المعنى، وقوله :" ولمْ تَقُل : أتَيْتُ المكانَ، وآتانيه " هذا غيرُ مسلمٍ، بل تقول :: أتَيْتُ المَكَانَ " كما تقول :" جِئْتُ المكانَ " وقال الشاعر :[الوافر] ٣٥٨٦ - أتَوْا نَارِي فَقُلْتُ منُونَ أنتُمْ
فقالُوا الجِنُّ قُلتُ عَمُوا ظَلامَا
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٣٠
٣٩
ومن رأى التعدية بالهمزةِ قياساً، قال :" آتانيه " قال شهاب الدين : وهذه الأبحاثُ التي ذكرها الشيخُ - رحمه الله - معه ظاهرةُ الأجوبة، فلا نُطَوِّلُ بذكرها.
وقرأ الجمهورُ " فأجَاءَهَا " أي : ألْجَأهَا وساقها، ومنه قوله :[الوافر] ٣٥٨٧ - وجَارٍ سَارَ مُعْتَمِداً إليْكُمْ
أجَاءَتْهُ المخَافَةُ والرَّجَاءُ
وقرأ حمَّادُ بن سلمة " فاجَأهَا " أي : ألْجَأهَا وساقها، ومنه قوله :[الوافر] ٣٥٨٧ - وجَارٍ سَارَ مُعْتَمِداً إليْكُم
أجَأءَتْهُ المخَافَةُ والرَّجَاءُ
وقرأ حمَّادُ بن سلمة " فاجَأهَا " بألفٍ بعد الفاء، وهمزة بعد الجيم، من المفاجأة، بزنة " قابلها " ويقرأ بألفين صريحتين ؛ كأنهم خَفَّفُوا الهمزة بعد الجيمِ، وبذلك رُويتْ بَيْنَ بَيْنَ.
والجمهورُ على فتح الميم من " المَخَاض " وهو وجعُ الولادةِ، ورُوِيَ عن ابن كثير بكسر الميم، فقيل : هما بمعنى، وقيل : المفتوجُ : اسمُ مصدر ؛ كالعطاءِ والسلامِ، والمكسورُ مصدرٌ ؛ كالقتال واللِّقاء، والفعالُ : قد جاء من واحد ؛ كالعقابِ والطِّرَاقِ، قاله أبو البقاء، والميم أصليةٌ ؛ لأنه من " تَمخَّضتِ الحامِلُ تَتَمخَّضُ ".
و " إلى جذْعِ " يتعلق في قراءة العامَّة بـ " أجَاءَهَا " أي : ساقها إليه.
وفي قراءة حمَّاد بمحذوفٍ، لأنه حالٌ من المفعول، أي : فاجأها مستندةً إلى جذْع النَّخْلةِ.
فصل في معنى الآية المعنى : ألْجَأهَا المخاض، وهو وجعُ الولادةِ إلى جذْعِ النَّخْلَة ؛ لتستند إليها، وتتمسَّك بها عمد وجع الولادة، وكانت نخلة يابسةً في الصحراء في شدَّة الشِّتاء، ولم يكُن لها سعفٌ، ولا خُضْرة، والتعريف فيها : إمَّا أن يكون من تعريف الأسماء الغالبة ؛ كتعريف النّضجم [والصَّعق] أو كانت تلك الصَّحراء كان فيها جذْع نخلة مشهورٌ عند النَّاس.
فإن قيل : جذعُ النَّخْلة فهم منه ذلك دون سائره، وإمَّا يكون تعريف الجنْسِ، أي : إلى جذْعِ هذه الشَّجرة خاصَّةً ؛ كأنَّ الله تعالى أرشدها إلى النَّخْلة ؛ ليُطعمَها منها الرُّطب الذي هو أشبه الأشياء موافقة للنُّفساء، ولأنَّ النخلة أشدُّ الأشياء صَبْراً على البَرْد، ولا تُثْمِرُ إلاَّ عند اللِّقاح، وإذا قُطِعَ رأسُها، لم تُثْمِرْ، فكأنَّ الله تعالى قال : كما أنَّ الأنثى لا تلدُ إلاَّ مع الذَّكر،
٤٠


الصفحة التالية
Icon