فكذا النَّخلة لا تُثْمِر إلا باللِّقاح، ثم إنَّه أظهر الرُّطب من غيْر اللِّقَاح ؛ ليدلَّ ذلك على جواز ظُهُور الولد من غير ذكر.
﴿قَالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا﴾ تمنَّت الموت.
فإن قيل : كيف تمنَّت الموت مع أنها كانت تعلم أنَّ الله تعالى بعث جبريل - صلوات الله عليه - ووعدها بأنْ يجعلها وولدها آيةً للعالمين.
فالجوابُ من وجوه : الأول : تمنَّت الموت استحياءً من النَّاس، فأنْسَاها الاستحياء بشارة الملائكة بعيسى - صلوات الله عليه -.
الثاني : أنَّ عادة الصَّالحين - رضي الله تعالى عنهم - إذا وقعُوا في بلاءٍ : أن يقُولُوا ذلك، كما رُوِيَ عن أبي بكر - رضي الله عنه - أنه [نظر إلى طائرٍ] على شجرة، فقال : طُوبى لَكَ، يا طَائِر ؛ تقعُ على الشَّجرِ، وتأكُلُ من الثَّمَر، وددت أنِّي ثمرةٌ يَنْقُرهَا الطَّائِرُ.
وعن عُمر - رضي الله عنه - أنَّه أخذ تبنة من الأرض، فقال : يا لَيْتَنِي هذه التَّبْنَةُ، يا بَيْتَنِي لم أكُنْ شيئاً.
وعن عليٍّ كُرِّم وجهه يوم الجمل : لَيْتَنِي مِتُّ قبل هذا اليومِ بعشرين سنة.
وعن بلالٍ - رضي الله عنه - : ليت بلالاً لم تلدهُ أمهُ.
فثبت أنَّ هذا الكلام يذكُرُه الصَّالحون عند اشتداد الأمْرِ عليهم.
الثالث :- لعلَّها قالت ذلك ؛ لئلاَّ تقع المعصيةُ ممن يتكلَّم فيها، وإلاَّ فهي راضيةٌ بما بُشِّرَتْ به.
قوله تعالى :" نَسْياً " الجمهور على النون وسكون السين، وبصريح الياء بعدها، وقرأ حمزة وحفص وجماعة بفتح النون، فالمكسور " فِعْل " بمعنى " مَفْعُولٍ " كالذَّبح والطَّحن، ومعناه الشيء الحقيرُ الذي من شأنه أن ينسى ؛ كالوتد، والحبلِ، وخرقةِ الطَّمْثِ، ونحوها.
تمنت لو كانت شيئاً تافهاً لا يؤبه له من حقّه أن ينسى عادة.
قال ابن الأنباري - رحمه الله - :" من كسر فهو اسمٌ لما يُنسى، كالنَّقص ؛ اسمٌ لما ينقصُ، والمفتوحُ : مصدرٌ يسدُّ مسدَّ الوصف " وقال في الفرَّاء : هما لغتان ؛ كالوَتْر والوِتْر، والكسرُ أحَبُّ إليَّ ".
٤١
وقرأ محمدُ بنُ كعب القرظيُّ " نِسْئاً " بكسر النون، والهمزةُ بدل الياء، وروي عنه أيضاً، وعن بكر بن حبيب السهميِّ فتحُ النون مع الهمزة، قالوا : وهو من نسأتُ اللَّبن، إذا صببت فيه ماءً، فاستهلك فيه، فالمكسورُ أيضاً كذلك الشيء المستهلك، والمفتوحُ مصدرٌ ؛ كما كان ذلك من النِّسيانِ.
ونقل ابن عطيَّة عن بكر بن حبيبٍ " نَساً " بفتح النون، والسين، والقصر ؛ كـ " عَصاً "، كأنه جعل فعلاً بمعنى مفعولٍ ؛ كالقبضِ بمعنى المقبوض.
و " منْسِيًّا " نعتٌ على المبالغة، وأصله " مَنْسُويٌ " فأدغم، وقرأ أبو جعفرٍ، والأعمشُ " مِنْسيًّا " بكسر الميم ؛ للاتباع لكسرة السين، ولم يعتدُّوا بالساكن ؛ لأنه حاجزٌ غير حصينٍ ؛ كقولهم :" مِنْتِنٌ " و " مِنْخِرٌ "، والمقبرة والمحبرة.
قوله تعالى :﴿فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ﴾ : قرأ الأخوان، ونافع، وحفص بكسر ميم " مِنْ " وجرِّ " تحتها " على الجار والمجرور، والباقون بفتحها، ونصب " تحتها " فالقراءةُ الأولى تقتضي أن يكون الفاعلُ في " نَادَى " مَكراً، وفيه تأويلان : أحدهما : هو جبريلُ، ومعنى كونه " مِنْ تحتها، أنه في مكانٍ أسفل منها ؛ ويدلُّ على ذلك قراءةُ ابن عبَّاس " فناداها ملكٌ من تحتها " فصرَّح به.
ومعنى كونه أسفل منها : إما أن يكونا معاً في مكانٍ مستوٍ، وهناك مبدأ معيَّنٌ، وهو عند النَّخْلة، وجبريلُ بعيدٌ عنها، فكل من كان أقرب، كان فوق، وكُلُّ من كان أبعد، كان تحت، وبهذا فَسَّر الكلبيُّ قوله تعالى :﴿إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ﴾ [الأحزاب : ١٠].
ولهذا قال بعضهم : ناداها من أقصى الوادي.
وقيل : كانت مريم على أكمةٍ عاليةٍ، وجبريل أسفل ؛ قاله عكرمة.
ورُوِيَ عن عكرمة : أنَّ جبريل ناداها من تحتِ النخْلَة.
و " مِنْ تَحْتهَا " على هذا فيه وجهان : أحدهما : أنه متعلِّقق بالنداء، أي : جاء النداء من هذه الجهة.
والثاني : أنه حالٌ من الفاعل، أي : فناداها، وهو تحتها.
وثاني التأويلين : أنَّ الضمير لعيسى، أيك فناداها المولودُ من تحتِ ذيلها، والجارُّ
٤٢