الثاني : أنهم لا يسمعون فيها إلا قولاً يسلمون فيه من العيب والنقصان على الاستثناء المنقطع.
الثالث : أن معنى السلام هو الدعاء بالسلامة، ودار السلامة هي دار السلامة، وأهلها أغنياء عن الدعاء بالسلامة، فكان ظاهره من باب اللغو وفضول الحديث، لولا ما فيه من فائدة الإكرام.
وظاهر هذا أن الاستثناء على الأول والأخير متصل، فإنه صرح بالمنقطع في الثاني وأما اتصال الثالث فواضح، لأنه أطلق اللغو على السلام بالاعتبار الذي ذكره.
وأما الاتصال في الأول فعسر، إذ لا يعدُّ ذلك عيباً، فليس من جنس الأول وسيأتي تحقيق هذا إن شاء الله - تعالى - عند قوله :﴿لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى ﴾ [الدخان : ٥٦].
قوله :﴿وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً﴾ فيه سؤالان : السؤال الأول : أن المقصود من هذه الآيات وصف الجنة بآيات مستعظمة ووصول الرزق إليهم بكرة وعشياً ليس من الأمور المستعظمة.
والجواب من وجهين : الأول : قال الحسن : أراد تعالى أن يرغب كل قوم بما أحبوه في الدنيا، فلذلك ذكر أساور الذهب والفضة، ولبس الحرير التي كانت عادة العجم، والأرائك التي هي
٩٥
الحجال المضروبة على الأسرَّة، وكانت عادة أشراف اليمن، ولا شيء كان أحب إلى العرب من الغداء والعشاء فوعدهم بذلك.
الثاني : المراد دوام الرزق، تقول : أنا عند فلان صباحاً ومساء، تريد الدوام، ولا تقصد الوقتين المعلومين.
السؤال الثاني : قال تعالى :﴿لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً﴾ وقال عليه السلام :" لا صباح عند ربك ولا مساء بل هم في نور أبداً ".
والبكرة والعشيّ لا يوجدان إلا عند وجود الصباح والمساء.
والجواب : أنهم يأكلون على مقدار الغداة والعشي، لا أن في الجنة غدوة ولا عشياً، إذ لا ليل فيها.
وقيل : إنهم يغرقون النهار برفع الحجب، ووقت الليل بإرخاء الحجب.
وقيل : المراد رفاهية العيش، وسعة الرزق، أي : لهم رزقهم متى شاءوا.
قوله :﴿تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ﴾ صحت الإشارة بـ " تِلْكَ " إلى " الجَنَّة " لأنها غائبة.
وقرأ الأعمش :" نورثها " بإبراز عائد الموصول.
وقرأ الحسن، والأعرج، وقتادة :" نُوَرِّثُ " بفتح الواو وتشديد الراء من ورَّث مضعفاً، وقوله :" نُورث " استعارة، أي : نبقي عيله الجنة كما نبقي على الوارث مال الموروث، وقيل : معناه : ننقل تلك المنازل ممن لو أطاع لكانت له إلى عبادنا الذين اتقوا ربهم، فجعل هذا النقل إرثاً، قاله الحسن.
المتقي : هو من اتقى المعاصي ؛ واتقى ترك الواجبات.
٩٦
قال القاضي : هذه الآية دالة على أن الجنة يدخلها من كان تقياً، والفاسق المرتكب للكبائر لم يوصف بذلك.
وأجيب بأن هذه الآية تدل على أن المتقي يدخلها، وليس فيها دلالة على أن غير المتقي لا يدخلها ؛ وأيضاً : فصاحب الكبيرة متقٍ عن الكفر، ومن صدق عليه أنه متقٍ (عن الكفر، فقد صدق عليه أنه متق)، لأن المتقي جزء مفهوم قولنا : المتقي عن الكفر، وإذا كان صاحب الكبيرة (يصدق عليه أنه متقٍ، وجب أنه) يدخل الجنة، (فالآية بأن تدل على أن صاحب الكبيرة يدخل الجنة) أولى من أن تدل على أنه لا يدخلها.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٨٦
قوله تعالى :﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ﴾ الآية.
قال ابن عطية : الواو عاطفة جملة كلام على أخرى، واصلة بين القولين، وإن لم يكن معناهما واحداً.
وقد أغرب النقاش في حكاية قول : وهو أن قوله :" وما نَتَنَزَّلُ " متصل بقوله :﴿قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لاًّهَبَ لَكِ﴾ [مريم : ١٩].
وقال أبو البقاء :" وما نَتَنَزَّلُ " أي : وتقول الملائكة.
فجعله معمولاً لقول مضمر.
وقيل : هو من كلام أهل الجنة.
وهو أقرب مما قبله.
و " نَتَنَزَّلُ " مطاوع
٩٧
نزَّل - بالتشديد - ويقتضي العمل في مهلة وقد لا يقتضيها.
قال الزمخشري : التنزل على معنيين : معنى النزول على مهل، ومعنى النزول على الإطلاق، كقوله : ٣٦١٢ - فَلَسْتُ لإنْسِيّ ولكن لملأكٍ
تَنَزَّلَ من جَوِّ السَّمَاءِ يصُوبُ


الصفحة التالية
Icon