فإن قيل : هذا المعنى حاصل للكل لقوله :﴿وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً﴾ [الجاثية : ٢٨]، ولأنَّ العادة جارية بأنَّ الناس في مواقف مطالبات الملوك يتجاثون على ركبهم لما في ذلك من القلق، أة لما يدهمهم من شدة الأمر التي لا يطيقون معه القيام على أرجلهم وإذا كان حاصلاً للكل، فكيف يدل على مزيد ذل الكفار.
فالجواب : لعل المراد أنهم يكونون من وقت الحشر إلى وقت الحضور في الموقف على هذه الحال، وذلك يوجب مزيد ذلهم.
قوله :" جِثِيًّا " حال مقدرة من مفعول " لنُحْضرنَّهُمْ ".
و " جِثِيًّا " جمع جاثٍ جمع على فعول، نحو قَاعد وقُعُود، وجَالس وجُلوس، وفي لامه لغتان : أحدهما : الواو.
والأخرى : الياء.
يقال : جَثَا يَجْثُو جُثُوًّا، وجَثَا يَجْثِي جِثِيًّا.
فعلى التقدير الأول : يكون أصله جُثُوو.
بواوين الأولى زائدة علامة للجمع والثانية لام الكلمة، ثم أعلت إعلال عِصِيّ ودليّ، وتقدم تحقيقه في " عِتيًّا ".
وعلى الثاني يكون الأصل : جُثُوياً، فأعل إعلال هيِّن وميِّت.
وعن ابن عباس : أنه بمعنى جماعات جماعات، جمع جثْوة، وهوالمجموع من
١٠٩
التراب والحجارة، وفي صحته عنه نظر من حيث إنَّ فعلهُ لا يجمع على فعول.
ويجوز في " جِثِيًّا " أن يكون مصدراً على فعول، وأصله كما تقدم في حال كونه جمعاً، إمَّا جُثُوو، وإمَّا جُثُوي.
وقد تقدم أنَّ الأخوين يكسران فاءه، والباقون يضمونها.
والجثوّ : القعود على الركب.
قوله :﴿ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ﴾ أي : ليخرجن من كل أمة وأهل دين من الكفار والشيعة فعلة كفرقة : ومنه الطائفة التي شاعت، أي : تبعت غاوياً من الغواة.
قال تعالى :﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً﴾ [الأنعام : ١٥٩].
والمعنى : أنه - تعالى - يحضرهم أولاً حول جهنم، ثم يميز البعض من البعض، فمن كان منهم أشد تمرداً في كفره خص بعذاب عظيم، لأنَّ عذاب الضال المضل يجب أن يكون فوق عذاب من يضل تبعاً لغيره، وليس عذاب من يتمرد ويتجبر كعذاب المقلد، ومعنى الآية : أنه ينزع من كل فرقة من كان أشد عتياًّ وتمرداً ليعلم أنَّ عذابه أشد وفائدة هذا التمييز التخصيص " بشدة العذاب لا التخصيص " بأصل العذاب، فلذلك قال في جميعهم :﴿ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً﴾ ولا يقال :" أوْلَى " إلا مع اشتراكهم في العذاب.
قوله :﴿أَيُّهُمْ أَشَدُّ﴾ فيه أقوال كثيرة، أظهرها عند جمهور المعربين، وهو مذهب سيبويه : أنَّ " أيُّهُمْ " موصولة بمعنى " الذي "، وأنَّ حركتها حركة بناء، بنيت عند سيبويه لخروجها عن النظائر.
١١٠
و " أشَدُّ " خبر مبتدأ مضمر، والجملة صلة لـ " أيُّهُمْ "، و " أيُّّهُمْ " وصلتها في محل نصب مفعولاً بها بقوله :" لنَنْزِعَنَّ ".
و لـ " أيّ " أحوال الأربعة : إحداها تبني فيها، وهي كما في هذه الآية أن تضاف ويحذف صدر صلتها، ومثله قول الآخر : ٣٦١٦ - إذَا ما أتَيْتَ بَنِي مَالِكٍ
فَسَلِّمْ عَلَى أيُّهثمْ أفْضَلُ
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٩٧
بضم " أيُّهُمْ ".
وتفاصيلها مقررة في كتب النحو.
وزعم الخليل - رحمه الله - أنَّ " أيُّهُمْ " هنا مبتدأ، و " أشدُّ " خبره، وهس استفهامية، والجملة محكية بالقول مقدراً، والتقدير : لنَنْزِعَنَّ من كُل شيعةٍ المقول فيهم أيُّهُم.
وقوى الخليل تخريجه بقول الشاعر : ٣٦١٧ - ولقَدْ أبِيتُ مِنَ الفتاةِ بِمَنْزِلٍ
فأبِيتُ لا حَرِجٌ ولا مَحْرُوم
١١١
قال : فأبيتُ يقالُ فيَّ : لا حرجٌ ولا محْرُوم.
وذهب يونس إلى أنَّها استفهامية مبتدأ، وما بعدها خبرها كقول الخليل إلاَّ أنَّه زعم أنها متعلقة لـ " نَنْزِعَنَّ "، فهي في محل نصب، لأنَّه يجوز التعليق في سائر الفعال، ولا يخصه " بأفعال القلوب كما يخصه " بها الجمهور.
وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون النزع واقعاً على ﴿مِن كُلِّ شِيعَةٍ﴾ كقوله :﴿وَوَهَبْنَا لَهْمْ مِّن رَّحْمَتِنَا﴾ [مريم : ٥٠]، أي : لننزعنَّ بعض كل شيعة، فكأنَّ قائلاً قال : مَنْ هُمْ ؟ فقيل : أيهم أشدّ عِتِيًّا.
فجعل " أيُّهُمْ " موصولة أيضاً، ولكن هي في قوله خبر مبتدأ محذوف أي : هم الذين هم أشد.
قال أبو حيان : وهذا تكلف ما لا حاجة إليه، وادعاء إضمار غير محتاج إليه،
١١٢