الزمخشري : إنَّا أنْزَلْنَا عَلَيْكَ القرآنَ لِتتحمَّلَ متاعب التبليغ، ومقاومة العتاة من أعداء الإسلام ومقابلتهم، وغير ذلك من أنواع المشاق، وتكاليف النبوة وما أنزلنا هذا الْمُتْعِب الشاق إلاَّ ليكون تَذْكِرَةً.
وعلى هذا الوجه يجوز أن تكون تَذْكِرَةً حالاً ومفعولاً له.
انتهى.
فإن قيل : من أين أخذت أنه لمَّا جعله حالاً ومفعولاً له أن العامل فيه " لِتَشْقَى "، وما المانع أن يريد بالعامل فيه فعل الإنزال ؟ فالجواب : أن هذا الوجه قد تقدَّم له في قوله : وكل واحد من " لِتَشْقَى "، و " تَذْكِرَةً " علة للفعل، وأيضاً فإن تفسيره للمعنى المذكور منصَبٌّ على تسلط " لِتَشْقَى " على " تَذْكِرَةً " إلا أنَّ أبا البقاء لما لم يظهر له هذا المعنى الذي ظهر للزمخشري منع من عمل " لِتَشْقَى " في " تَذْكِرَةً "، فقال : ولا يصح أن يعمل فيها " لِتَشْقَى " لفساد المعنى وجوابه : ما تقدَّم.
(ولا غرو في تسمية التعب شقاءً)، قال الزمخشري : والشقاء يجيء في معنى التعب، ومنه المثل : أتْعَبُ مِنْ رَائِضِ مُهْرٍ، وأشْقَى من رائضِ مُهْرٍ.
و " لِمَنْ يَخْشَى " متصل بـ " تَذْكِرَةًُ " وزيدت اللام في المفعول، تقوية للعامل لكونه فعلاً.
ويجوز أن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه صفة لـ " تَذْكِرة ".
١٧١
وخصَّ مَنْ يَخْشَى بالتذكر، لأنهم المنتفعون بها، كقوله :" هُدًى لِلْمُتَّقين ".
قوله :" تَنْزِيلاً " في نصبه أوجه : أحدها : أن يكون بدلاً من " تَذْكِرَةً " إذا جعل حالاً لا إذا كان مفعولاً، لأن الشيء لا يعلِّلُ بنفسه، لأنه يصير التقدير : مَا أنْزَلْنَا القرآنَ إِلاَّ لِلتَّنْزِيل.
الثاني : أن ينتصب بـ " نزل " مضمراً.
الثالث : أن ينتصب بـ " أنْزَلْنَا "، لأن معنى ما أنْزَلْنَا إلاَّ تذكرة : أنْزَلْنَاهُ تَذْكِرَةً.
الرابع : أن ينتصب على المدح والاختصاص.
الخامس : أن ينتصب بـ " يَخْشَى " مفعولاً به، أي أنزلناه للتذكرة لِمَنْ يَخْشَى تنزيلَ الله، وهو معنى حسن وإعراب بيِّن.
قال أبو حيان : والأحسن ما قدَّمناه أولاً من أنَّه منصوب بـ " نَزَل " مضمرةً، وما ذكره الزمخشري من نصبه على غيره فمتكلف : أما الأول ففيه جعل " تَذْكِرَةً " و " تَنْزِيلاً " حالين وهما مصدران، وجعل المصدر حالاً لا ينقاس.
وأيضاً فمدلول " تَذْكِرَةً " ليس مدلولاً " تَنْزِيلاً "، ولا " تَنْزِيلاً " بعض " تّذْكِرَةً " فإن كان بدلاً فيكون بدلَ
١٧٢
اشتمال على مذهب من يرى أن الثاني مشتمل على الأول ؛ لأن التنزيل مشتمل على التذكرة، وغيرها.
وأما قوله : لأن معنى ما أنزلناه إلا تذكرةً أنْزَلناهُ تَذْكِرَةً، فليس كذلك، لأن معنى الحصر يفوت في قوله :" أنزلناه تذكرةً.
وأما نصبه على المدح فبعيد.
وأمَّا نصبه على " يَخشَى " ففي غاية البُعد، لأن " يَخْشَى " رأس آية وفاصلة فلا يناسب أن يكون " تَنْزِيلاً " منصوباً بـ " يَخْشَى "، وقوله : وهو معنى حسن وإعراب بيِّن عجمة وبُعْدٌ عن إدراك الفصاحة.
قال شهاب الدين : ويكفيه رد الشيء الواضح من غير دليل ونسبة هذا الرجل إلى عدم الفصاحة ووجود العجمة.
قوله :" مِمَّنْ خَلَقَ ".
يجوز في (مِنْ) أن يتعلق بـ " تَنْزِيلاً "، وأن يتعلق بمحذوف على أنه صفة لـ " تَنْزِيلاً ".
وفي " خَلَقَ " (التفات) من تكلُّم في قوله :" مَا أنْزَلْنَا " إلى الغيبة وجوز الزمخشري أن يكون " مَا أنْزَلْنَا " حكاية لكلام جبريل عليه السلام وبعض الملائكة فلا التفات على هذا.
قوله :" العُلَى " جمع عُلْيَا، نحو دُنْيَا ودُنًى، ونظيره في الصحيح كُبْرَى وَكُبَر،
١٧٣
وفُضْلَى وفُضَل، يقال سماء عُلْيَا وسموات عُلَى.
ومعنى الآية :" تَنْزِيلاً مَمَّنْ خَلَقَ " أي :(مِنَ الله الذي خلق الأرضَ والسَّمَواتِ العُلَى) يعني العالية الرفيعة.
وفائدة وصف السَّوات بالعُلَى : الدلالة على عظم قدرة من يخلق مثلها في علوها (وبعد مرتقاها).
قوله :" الرَّحْمنُ " العامة على رفعه، وفيه أوجه : أحدها : أنه بدل من الضمير المستكن في " خَلَقَ " ذكره ابن عطية، ورده أبو حيان بأن البدل يحل محل المبدل منه، ولو حل محله لم يجز لخلو الجملة الموصولة بها من رابط يربطها.
الثاني : أن يرتفع على الابتداء مشاراً إلى " مَنْ خَلَقَ " والجملة بعده خبر.
وقرأ جناح بن حُبَيش :" الرَّحْمنِ " مجروراً، وفيه وجهان : أحدهما : أنه بدل من الموصول.
لا يقال : إنه يؤدي إلى البدل بالمشتق وهو قليل، لأن (الرحمن) يجري مجرى الجوامد لكثرة إيلائه العوامل.
١٧٤