وكيف يتصوّر كتمانه من نفسه ؟ قال القاضي : هذا بعيد، لأن الإخفاء إنما يصح ممن يصح له الإظهار، وذلك مستحيل عليه تعالى، لأن كلَّ معلومٍ له، فالإظهار والإسرار فيه مستحيل.
ويمكن أن يُجاب بأن ذلك واقع على التقدير، بمعنى لو صح مني إخفاؤه عن نفس أخفيته عني، والإخفاء وإن كان محالاً في نفسه إلا أنه يمتنع أن يذكر على هذا التقدير، مبالغة في عدم إطلاع الغير عليه.
والتأويل الثاني : أن (كَادَ) زائدة قاله ابن جبير، وأنشد غيره شاهداً عليه قول زيد الخيل : ٣٦٤٥ - سَريعٌ إلَى الهَيْجَاءِ شَاكٍ سِلاَحَهُ
فَمَا إنْ يَكَادُ قِرْنُهُ يَتَنَفَّسُ
وقول الآخر : ٣٦٤٦ - وَأَنْ لا أَلُومُ النَّفْسَ مِمَّا أَصَابَنِي
وَأَنْ لاَ أَكَادُ بالَّذِي نِلْتُ أنْجَحُ
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ١٩٩
ولا حجة في شيء منه.
٢٠٠
والتأويل الثالث : أنَّ الكيدَ ورد بمعنى الإرادة، قاله الأخفش وجماعة، وهو قول إبِي مسلم، فهو كقوله :" كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ " ومن أمثالهم المتداولة " لا أفْعَلُ ذَلِكَ وَلا أَكَادُ.
أي : لا أُريد أَنْ أفعله، وهذا) لا ينفع فيما قصدوه.
التأويل الرابع : أنَّ خبرها محذوف، تقديره : أكادُ آتِي بها لقُرْبِها، وأنشدوا قول ضابئ البرجمي : ٣٦٤٧ - هَمسْتُ وَلَمْ أفْعَلْ وكِدْتُ وَلَيْتَنِي
تَرَكْتُ عَلى عُثْمَانَ تَبْكِي حَلاَئِلُهُ
أي : وكدت أفعل.
فالوقف على " أَكَادُ " والابتداء بـ " أُخْفِيَها "، واستحسنه أبو جعفر.
٢٠١
وذكر ابن الخطيب هنا سؤالاً : فقال : إنَّ (كادَ) نفيه إثبات وإثباته نفي، قال تعالى :" وَمَا كَادُوا يَفْعَلُون "، أي : ففعلوا ذلك، فقوله :" أكَادَ أُخْفِيَها " يقتضي أنه ما أخفاها.
وذلك باطل لوجهين : أحدهما : لقوله تعالى :﴿إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ﴾ [لقمان : ٣٤] الثاني : إنَّ قوله :﴿لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ﴾ إنما يليق بالإخفاء لا بالإظهار.
ثم أجاب بوجوه : الأول : أنَّ " كَادَ " موضوع للمقاربة فقط من غير بيان النفي والإثبات، فقوله :" أَكَادُ أُخْفِيها " معناه : قرب الأمر فيه من الإخفاء.
وأمَّا أنَّه هل حصل ذلك أو ما حصل فهو غير مستفاد من اللفظ بل بقرينة قوله :﴿لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ﴾ فإن ذلك إنما يليق بالإخفاء لا بالإظهار.
الثاني : أنَّ " كَادَ " من الله : وجب، فمعنى قوله : أَكَادُ أُخْفِيَها " أي : أنا أُخْفِيها عن الخلق، كقوله :﴿عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيباً﴾ [الإسراء : ٥١] أي هو قريبٌ قاله الحسن.
وذكر باقي التأويلات المتقدمة.
وقرأ أبُو الدرداء وابن جبير والحسن ومجاهد وحميد :" أَخْفِيَها " بفتح الهمزة
٢٠٢
والمعنى : أظهرها بالتأويل المتقدم، يقال : خَفَيْتُ الشيء : أظهرتُه وأخفيتُه سترتُه هذا هو المشهور وقد نقل عن أبي الخطاب أنَّ خَفَيْتُ وأَخْفَيْتُ بمعنى.
وحكى عن أبي عبيد أَنَّ أخْفَى من الأضداد يكون بمعنى أظْهَرَ وبمعنى سَتَرَ.
وعلى هذا تتخذ (القراءتان).
ومن مجِئ خَفَيْتُ بمعنى أظهرت قول امرئ القيس : ٣٦٤٨ - خَفَاهُنَّ مِنْ أَنْفَاقِهِنَّ كَأَنَّمَا
خَفَاهُنَّ وَدْقٌ مِنْ عِشِيٍّ مُجْلِّبِ
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ١٩٩
وقول الآخر : ٣٦٤٩ - فَإنْ تَدْفِنُوا الدَّاءَ لاَ نُخْفِهِ
وَإنْ تُوقِدُوا الحَرْبَ لا نَقْعُدِ)
قال الزجاج : وهذه القراءة أبْيَنُ، لأن معناها : أكادُ أَظْهِرُها (فيفيد أنه قد أخفاها).
والحكمة في إخفاء الساعة وإخفاء وقت الموت : أنَّ الله تعالى وعد قبلها التوبة عند قربهما، فلو عرف وقت الموت لاشتغل بالمعصية إلى وقت قرب ذلك الوقت ثم يتوب فيتخلص من عقاب المعصية، فتعريف وقت الموت كالإغراء بفعل معصية وهو لا يجوز.
قوله :" لِتُجْزَى " هذه لام كي، وليست بمعنى
٢٠٣


الصفحة التالية
Icon