القسم أي : لِتُجْزَيَّن كما نقله أبو البقاء عن بعضهم، وتتعلق هذه اللامِ بأُخْفِيها.
وجعلها بعضهم متعلقة بـ (آتِيَةٌ)، وهذا لا يتم إلا إذا قدرت أن " أكَادُ أُخْفِيِهَا " معترضة بين المتعلق والمتعلق به، أما إذا جعلتها صفة (آتِيَةٌ) فلا يتم على مذهب البصريين، لأن اسم الفاعل متى وصف لم يعمل فإن عمل ثم وصف جاز.
وقال أبو البقاء : وقيل : بـ (آتِيَةٌ)، ولذلك وقف بعضهم على ذلك وقفة يسيرة إيذاناً بانفصالها عن (أخفيها).
قوله :" بِمَا تَسْعَى " متعلق بـ " لِتُجْزَى ".
و " مَا " يجوز أن تكون مصدرية أو موصولة اسمية، ولا بد من مضاف، أي : لِتُجْزَى بعقاب سعيها، أو : بعقاب ما سعته.
فصل لمَّا حكم بمجيء الساعة ذكرَ الدليلَ عليه، وهو أنه لولا القيامة لما تميز المطيع من العاصي، وهو المعنيُّ بقوله :﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾ [ص : ٢٨].
واحتجت المعتزلة بهذه الآية على أن الثواب مستحق على العمل، لأن (الباءَ) للإلصاق، فقوله :" بِمَا تَسْعَى " يدل على أن المؤثر في ذلك الجزاء هو ذلك السعي واحتجوا بها أيضاً على أن فعل العبد غير مخلوق لله تعالى، لأن الآية صريحة في إثبات
٢٠٤
سعي العبد، ولو كان الفعل مخلوقاً لله تعالى لم يكن للعبد سعي ألبتة ".
قوله :" فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا " من لا يؤمن هو المنهي صورة، والمراد غيره، فهو من باب : لا أريَنَّك هَهُنَا.
وقيل : إن صدَّ الكافرِين عن التصديق بها سبب للتكذيب، فذكر السبب ليدل على المسبب.
والضميران في " عَنْهَا " و " بِهَا " للسَّاعة قاله ابن عباس : وذلك أنه يجب عود الضمير إلى أقرب مذكور وهو هنا الساعة.
وقيل : للصلاة.
وقال أبو مسلم : الضمير في (عَنْهَا) للصَّلاة، وفي (بِهَا) للسَّاعة، قال : وهذا جائز في اللغة، فالعرب تلف الخبرين ثم ترمي بجوابهما جملة ليرد السامع إلى كل خبر حقه.
وأجيب بأنَّ هذا إنما يصار إليه عند الضرورة ولا ضرورة (ههنا).
قوله :" فَتَرْدَى " يجوز فيه أن ينتصب في جواب النهي بإضمار " أَنْ) وأن يرتفع على خبر ابتداء مضمر تقديره : فَأَنْتَ تَرْدَى.
وقرأ يحيى :" تَرْدَى " بكسر التاء، وقد تقدم أنها لغة والرَّدَى الهلاك يقال : رَدِيَ يَرْدَى رَدّى، قال دُرَيْد (بن الصمة) :
٢٠٥
٣٦٥٠ - تَنَادَوْا فَقَالُوا أَرْدَتِ الخَيْلُ فَارِسَاً
فَقُلْتُ أَعْبُدَ اللهِ ذَلِكُمُ الرَّدِي
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ١٩٩
فصل الخطابُ في قوله :" فَلاَ يَصُدَّنَّكَ " يحتمل أن يكون مع موسى، وأن يكون مع محمد - عليهما السلام -.
والأقرب أنه مع موسى - عليه السلام -، لأنَّ جميع الكلام خطاب له.
وعلى كلا الوجهين فلا معنى لقول الزجاج : إنَّه ليس بمراد وإنما أريد به غيره، وذلك لأنه ظن أن النبيَّ - عليه السلام - لما لم يجز عليه مع النُّبَوَّة أن يصده أحد عن الإيمان بالساعة لم يجز أن يكون مخاطباً بذلك، وليس الأمر كما ظن، لأنه إذا كانَ مكلَّفاً بأنْ لا يقبلَ الكفر بالساعة من أحد وكان قادراً على ذلك جاز أن يخاطب به، (ويكون المراد) هو وغيره.
ويحتمل أيضاً أن يكون المراد بقوله :" فَلا يَصُدنَّكَ عَنْهَا " النهي عن الميل إليهم ومقاربتهم.
فصل المقصودُ نَهْيُ موسى - عليه السلام - عن التكذيب بالبعث، ولكن الظاهر اللفظ يقتضي نهيَ منْ لم يؤمن عن صدِّ موسَى - عليه السلام - وفيه وجهان : أحدهما : أن صدَّ الكافر عن التصديق بها سببٌ للتكذيب، فذكر السبب ليدل على المسبب.
(ذلك أن صد الكافر مسبب عن رخاوة الرَّجُل في الدِّين، فذكر المسبب ليدل حمله على السبب) كقولهم : لاَ أضرَيَنَّكَ هَهُنَا.
المراد نهيه عن مشاهدته والكون بحضرته فهكذا ههنا، كأنه قيل : لا تكن رخواً بل كن في الدين شديداً.
٢٠٦
فصل دلَّت الآية على وجوب تعلم علم الأصول، لأن قوله :" فَلاَ يَصُدَّنَّكَ " يرجع معناه إلى صلابته في الدين، وتلك الصلابة إن كان المراد بها التقليد لم يتميز المبطل فيه عن المحق، فلا بد وأن يكون المراد بهذه الصلابة كونه قوياً في تقرير الدلائل، وإزالة الشبهات حتى لا يتمكن الخصم من إزالته عن الدين بل يكون هو متمكناً من إزالة المبطل عن بطلانِهِ.
(فصل) قوله :" فَلاَ يَصُدَّنَّكَ " يدل على أن العبادَ هُمُ الذين يصدون، ولو كان تعالى هو الخالق لأفعالهم لكان هو الصَّاد دونهم، فدل ذلك على بطلان القول بالجبر.
وأجيب بالمعارضة بمسألة العلم (والداعي).
ثم قال تعالى :" واتَّبَعَ هَوَاهُ " والمعنى أن منكر البعث إنَّما أنكره اتباعاً للهوى لا للدليل، وهذا من أعظم الدلائل على فساد التقليد، لأن المقلّد متبعٌ للهوى (لا للحجة) ثم قال :" فَتَرْدَى " أي : فتهلك.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ١٩٩