قوله تعالى :﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ﴾ الآية.
(مَا) مبتدأة استفهامية و " تِلْكَ) خبره، و " بِيَمِينِكَ " متعلق بمحذوف، لأنه حال كقوله :" وَهَذَا بَعْلِي شَيْخَاً "، والعامل
٢٠٧
في الحال المقدرة معنى الإشارةَ وجوَّز الزمخشري أن تكون (تِلْكَ) موصولة بمعنى (التي) و (بِيَمِينِكَ) صلتها.
ولم يذكر ابنُ عطية غيره.
وهذا ليس مذهب البصريين أنهم لم يجعلوا (من أسماء) الإشارة موصولاً (إذَا) بشروط تقدمت.
وأما الكوفيون فيجيزون ذلك جميعها، ومنه هذه الآية عندهم أي : وَمَا التي بيمينك وأنشدوا :
٣٦٥١ - نَجَوْتَ وَهَذَا تَحْمِلِينَ طَلِيقُ
أي والذي تحملين.
وقال الفراء معناه : وَمَا هذِهِ التي فِي يمينِكَ.

فصل السؤال إنما يكون لطلب العلم، وهو على الله تعالى محال.


فما فائدة قوله :" وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ " ؟
٢٠٨
والجواب فيه فوائد، الأولَى : حكمةُ هذا السؤال تنبيهُهُ وتَوْقيفُه على أنها عصا، حتى إذا قلبها حية عَلِمَ أنها معجزةٌ عظيمةٌ، وهذا على عادة العرب يقول الرجل لغيره : هَلْ تَعْرِف هَذَا ؟ وهو لا يشك أنه يعرفه، ويريد أن ينضم إقراره بلسانه إلى معرفته بقلبه.
الثانية : أن يقرِّرُ عنده أنها خشبة حتى إذا قلبها ثعباناً لا يخافُها.
الثالثة : أنه تعالى لمَّا أراه الأنوار المتصاعدة من الشجرة إلى السماء، وأسْمَعَهُ كلام نفسه، ثم أورد عليه التكليف الشاق، وذكر له المعاد، وختم ذلك بالتهديد العظيم، فتحيَّر موسى - عليه السلام - ودُهِشَ، (فقيل له :" وَمَا تِلْكَ بِيَمِينكَ "، وتكلم معه بكلام البشر إزالةٌ لتلك الدهشة والحيرة).
فصل هذا خطاب من الله مع موسى بلا واسطة، ولم يحصل ذلك لمحمد عليه السلام فيلزم أن يكون موسى أفضَل من محمد عليهما السلام.
فالجوابُ : أنَّه تعالى كما خاطبَ موسَى فقد خاطب محمداً في قوله :" فَأَوْحَى إلَى عِبْدِهِ مَا أَ وْحَى " إلا أن الفرق أنَّ الذي ذكره مع محمد كان سراً لم يستأهل له أحداً من الخلق.
وأيضاً إن كان موسى تكلم معه فأمةُ محمد يخاطبون الله تعالى في كل يوم مرات على ما قاله عليه السلام :" المُصَلَّى يُنَاجَي رَبَّهُ " والرَّبُ يتكلم مع آحاد أمة محمد يوم القيامة بالتسليم والتكريم لقوله :﴿سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ﴾ قوله :" هِيَ عَصَايَ " هِيَ يعودُ على المستفهم عنه.
٢٠٩
وقرأ العامة " عَصَايَ " بفتح الياء.
والجَعْفَرِيّ وابنُ أبي إسحاق " عَصِيَّ " بالقلب والإدغام.
وقد تقدَّم توجيه ذلك أوّل البقرة، ولِمَنْ تنسب هذه اللغة والشعر المروي في ذلك.
وروي عن أبي عمرو ابن أبي إسحاق أيضاً (والحسن " عِصَاي " بكسر الياء لالتقاء الساكنين، وعن أبي إسحاق) " عِصَايْ " بسكونها وصلاً وقد فعل ذلك نافع مثل ذلك في " مَحْيَايَ " فجمع بين ساكنين وصلاً، وقد تقدم الكلام هناك.
قوله :" أَتَوَكَّأُ " يجوز أن يكون خبراً ثانياً لـ " هِيَ " ويجوز أنْ يكونَ حالاً إمَّا مِنْ " عَصَايَ " وإمَّا مِنْ " الياء " وفيه بُعدٌ، لأن مجيء الحال من المضاف إليه قليل، وله مع ذلك شروط ليس فيه شيء منها هنا.
٢١٠
ويجوز أن تكون مستأنفة.
وجوَّز أبو البقاء نقلاً عن غيره : أن يكون " عَصَايَ " منصوبة بفعل مقدر، و " أَتَوَكَّأُ " هو الخبر.
ولا ينبغي أن يقال ذلك.
والتَّوكّؤُ : التحامُلُ على الشيء، وهو بمعنى الاتِّكاء، وقد تقدم تفسيره في يوسف فهما من مادة واحدة، وذكر هنا، لاختلاف وزنيها.
والهَشُّ بالمعجمية : الخَبْطُ، يقال : هَشَشْتُ الوَرَقَ أَهُشُّهُ أي : خبطته ليسقط، والمعنى : أَخْبِطُ بِهَا وَاَضْرِبُ أغصانَ الشجر ليسقط ورقُهَا على غنمي لتأكله وأما هَشَّ يَهِشُّ - بكسر العين في المضارع، فبمعنى البشاشة وقد قرأ النخعي بذلك، فقيل :
٢١١
هو بمعنى : أَهُشُّ - بالضم - والمفعول محذوف في القراءتين أي : أهُشُّ الورقَ أو الشجرَ وقيل : هو في هذه القراءة من هَشَّ هشاشةً إذا مال.
وقرأ وقرأ الحسن وعكرمة :" وأَهُسُّ " بضم الهاء والسين المهملة وهو السُّوْقُ، ومنه الهَسُّ (والهَسَّاسُ) وعلى هذا فكان ينبغي أن يتعدى بنفسه، ولكنه ضمَّن معنى ما يتعدى بعلى وهو أقوم (وَأَهْوَنُ).
ونقل ابن خالوية عن النخعي أنه قرأ " وأُهِسُّ " بضم الهمزة وكسر الهاء من (أَهَسَّ) رباعياً بالمهملة.
ونقلها عنه الزمخشري بالمعجمة، فيكون عنه قراءتان ونقل صاحب اللوائحِ عن مجاهد وعكرمة " وأهُشُ " بضم الهاء وتخفيف الشين، قال ولا أعرف لها وجهاً إلا أن يكون قد استثقل التضعيف مع تفشي الشين فخفف، وهي بمعنى قراءة العامة.
وقرأ بعضهم :" غَنَمِي " (بسكون النون)، وقرئ " عَلَيَّ " بتشديد الياء والمْآرِبُ : جمع مَأْرُبَة، وهي الحاجة وكذلك الإرْبَة أيضاً.
وفي (راء) المَأرُبَة الحركات الثلاث.
٢١٢


الصفحة التالية
Icon