وإنما قال :" مَآرِب " في معنى جماعة، فكأنه قال جماعة من الحاجات أخرى، ولم يقل أخر لرؤوس الآي (و " أُخْرَى " ) كقوله :" الأسْمَاءُ الحُسْنَى " وقد تقدَّم قريباً.
قال أبو البقاء : ولو قال : أخر لكان على اللفظ.
يعني أُخَر كقوله :" فَعِدَّةٌ مِنْ أيَّامٍ أُخَر " بضم الهمزة وفتح الخاء واللفظ لفظ الجمع.
ونقل الأهوازيّ عن شيبة والزهري : مَارِبُ " قال : بغير همز كذا أطلق والمراد بغير همز محقق بل مسهل بَيْنَ بَيْن وإلا فالحذف بالكلية شاذ.
فصل قيل : كما قال :" هِيَ عَصَايَ " فقد تم الجواب إلا أنه عليه السلام ذكر الوجوه الآخر، لأنه كان يجب المكالمة مع ربه تعالى، فجعل ذلك كوسيلة إلى تحصيل هذا الغرض.
٢١٣
" أتَوكَّأُ عَلَيْهَا " التوَكُّؤْ والاتِّكَاءُ واحد كالتوقي والاتقاء، أي أعتمد عليها إذا عييت، أو وقفت على رأس القطيع " وأهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي " أي : أضرب أغصان الشجر ليسقط ورقها على الغنم (فتأكله).
" وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرَى " أي حوائج ومنافع، وإنما أجمل في المآرب رجاء أن يسأله ربه عن تلك المآرب، فيسمع كلام الله مرة أخرى، ويطول أمر المكالمة بسبب (ذلك).
قال وهب : كانت ذا شعبتين (ومحجن، فإذا طلبَ ثمرَ الشجرة جناه بالمحجن، فإذا حاول كسره لواه بالشعبتين).
فإذا سارَ وضعهَا على عاتقه يعلق عليها أداته من القوس والكنانة والثياب، وإذا كان في البرية ركزها وألقى عليها كساء فكان ظلاً.
وقيل : كانَ فيها من المعجزات أنه كان يستقي بها فتطولُ طولَ البئر، وتصير شعبتاها دلواً، ويصيران شمعتين في الليل وإذا ظهر عدو حاربت عنه، وإذا اشتهى ثمرة ركزها فأورقت وأثمرت، وكان يحمل عليها زاده وماءه وكانت يابسة ويركزها فينبع الماء، وإذا رفعها نضب، وكان تقيه الهوام قال مقاتل : كان اسمها نبعة.
وروي عن ابن عبَّاس : أنها كانت تماشيه وتحدثه.
قال الله تعالى :" ألْقِهَا يَا مُوسَى " أي انبذها.
قال وهب ظن موسى أنه يقول أرفُضْهَا " فَألْقَاهَا " على وجه الأرض ثم ينظر إليها " فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى " صفراء أعظم ما تكون من الحيات تمشي بسرعة لها عرف
٢١٤
كعرف الفرَس، وكان بين لحييها أربعون ذراعاً، صارت شدقين لها والمِحجن عنقاً يهتز، وعيناها متقدان كالنار، وتمر بالصخرة العظيمة مثل الخلفة من الإبل فتلتقمها، وتقصف الشجرة العظيمة بأنيابها، ويسمع لأسنانها (صريف عظيم).
وهذا خارق عظيم وبرهان قاطع على أن الذي يكلمه هو الذي يقول للشيء كُنْ فيكون.
فصل والحكمة في قلب العصا حيَّةً في ذلك الوقت من وجوه : أحدها : لتكون معجزةً لموسى - عليه السلام - يعرف بها نبوة نفسه، لأنه عليه السلام - إلى هذا الوقت ما سمع إلا النداء.
والنداء وإن كان مخالفاً للعادات إلا انه لم يكن معجزاً، لاحتمال أن يكون ذلك من عادات الملائكة أو الجن، فقلب العصا حيَّةً ليكون دليلاً قاهِراً على الممعجزة.
الثاني : أنه تعالى عرضَها عليه ليشاهدوها أولاً، فإذا شاهدها عند فرعون لا يخافها.
وثالثها : أنه كان راعياً فقيراً ثم نُصِّب للمِنْصبِ العظيمِ فلعله بقي يتعجب من ذلك، فقلب العصا حيَّةً تنبيًّا على أني لما قدرت على ذلك، فكيف يستبعد مني نصرة مثلك في إظهار الدين.
فإنْ قيل : كيف قال ههنا " حَيَّة " وفي موضع آخر " جَان " وهو الحية الخفية الصغيرة، وقال في موضع " ثُعْبَانٌ " وهو أكبر ما يكون من الحيات ؟ فالجواب : أن الحيَّة اسم جنس يقع على الذكر والأنثى والصغير والكبير وأما
٢١٥
الجَانَّ فقيل : عبارة عن ابتداء حالها فإنها كانت حيَّةً على قدر العصا ثم تورمت وتزايدت وانتفخت حتى صارت ثعباناً.
وقيل : كانت في عظم الثعبان وسرعة الجانِّ لقوله تعالى :﴿فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ﴾ [النمل : ١٠، القصص : ٣١].
(و " تسعى " ) يجوز أن تكون خبراً ثانياً عند من يجوز ذلك ويجوز أن تكون صفة لـ " حَيَّةً " فلما عاين موسى ذلك " وَلَّى مُدْبِراً "، وهرب ثم ذكر ربه فوقف استحياءً فنودي :" خُذْهَا فَلاَ تَخَفْ سُنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا " (وهيبتها) " الأُولَى " أي نردها عصا كما كانت.
قوله :" سِيرَتَهَا " في نصبها أوجه : أحدها : أن تكون منصوبةً على الظرف، أي في سيرتها أي : طريقتها.
الثاني : أن تكونَ منصوبة على البدل من " ها " " سَنُعِيدُهَا " بدل اشتمال لأن السيرة الصفة، أي سنعيدها صفتها وشكلها.
الثالث : أنها منصوبةٌ على إسقاط الخافض أي : إلى سيرتها.
قال الزمخشري : ويجوز أن يكون مفعولاً من عَادَ أي عادَ إليه، فيتعدى لمفعولين، ومنه بيت زهير :
٣٦٥٢ - وَعَادَكَ أَنْ تُلاَقِيهَا عَدَاءُ
٢١٦