وهذا هو (معنى قول من قال : إنه على إسقاط (إلى) و) كان قد جوَّز أن يكون ظرفاً كما تقدَّم، إلا أن أبا حيَّان ردَّه بأنّه ظرف مختص فلا يصل إليه الفعل إلا بواسطة (في) إلا فيما (شذ.
والسيرَةُ) فِعْلَة تدل على الهيئة من السَّيْر كالركبة من الرُّكُوب، ثم اتسع فعبر بها عن المذهب والطريقة، قال خالد الهذلي : ٣٦٥٣ - فَلاَ تغْضَبَنْ مِنْ سِيرَةٍِ أَنْتَ سِرْتَهَا
فَأوَّلَ رَاضٍ سِيرَةً مَنْ يَسِيرُهَا
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٢٠٧
وجوَّز أيضاً أن ينتصب بفعل مضمر، أي : يسير سيرتها الأولى، وتكون هذه الجملة المقدرة في محل نصب على الحال ؛ أي : سَنُعيدُهات سائرةً سيرتَهَا.
فإن قيل : لمَّا نوديَ يا موسَى، وخصَّ بتلك الكرامات العظيمة وعلم أنه مبعوث من عند الله تعالى فلماذا خاف ؟ فالجواب من وجوه :
٢١٧
أحدها : أن ذلك الخوف كان من نفرة الطبع لأنه - عليه السلام - ما شاهد مثل ذلك قط، وهذا معلوم بدلائل العقول.
قال أبو القاسم الأنصاري : وذلك الخوف من أقوى الدلائل على صدقه في النبوة، لأن الساحر يعلم أن الذي أتى به تمويه فلا يخافه البتة.
وثانيها : خاف لأنه عليه السلام عرف ما لقي آدم منها.
وثالثها : أن مجرد قوله " وَلاَ تَخَفْ " لا يدل على حصول الخوف كقوله :﴿وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ﴾ [الأحزاب : ١، ٤٨] لا يدل على وجود تلك الطاعة، لكن قوله :﴿فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ وَلَّى مُدْبِراً﴾ [النمل : ١٠، القصص : ٣١] يدل عليه.
فصل قال المفسرون : كانَ علَى موسى مَدْرَعة من صوف قد خللها بعيدان.
فلما قال له :" خُذْهَا " لف طرف المَدْرَعَةِ على يده، فأمره الله أن يكشف يده، فكشف.
وقيل : إن مَلَكاً قال : أرأيت لو أذن الله بما تحاذره أكانت المدْرعة تغني عنك شيئاً ؟ فقال : لا ولكني ضعيف، ومِنْ ضَعْفٍ خُلِقَتُ، فكشف يده، ثم وضعهَا في فم الحية فإذا هي عصا كما كانت، ويده في شعبتيها في الموضع الذي يضعها إذا تَوَكَّأَ.
واعلم أن إدخاله يده في فم الحية من غير ضرر معجزة وانقلابها خشباً معجز آخر، وانقلاب العصا حيَّة معجز آخر، ففيها توالي معجزات المآرب التي تقدمت.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٢٠٧
قوله :﴿وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَوَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ﴾ لا بد هنا من حذف والتقدير : واضمم يَدَك تنضم
٢١٨
وأخرجها تخرج، فحذف من الأول والثاني وأبقى مقابلهما ليدلان على ذلك إيجازاً واختصاراً وإنما احتيج إلى هذا، لأنه لا يترتب على مجرد الضم الخروج.
وقوله :" بَيْضَاءَ " حال من فاعل تخرج.
قوله :" مِنْ غَيْرِ سُوءٍ " يجوز أن يكون متعلقاً بـ " تَخْرُج " وأن يكون متعلقاً بـ " بَيْضَاءَ " لما فيها من معنى الفعل حو ابيضت من غير سوء.
(ويجوز) أن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه حال من الضمير في " بَيْضَاء ".
وقوله :: مِنْ غَيْرِ سُوءٍ " يسمى عند أهل البيان الاحتراس، وهو أن يؤتى بشيء يرفع توهم مَنْ يتوهم غير المراد، وذلك أن البياض قد يراد به البَرَص والبَهَق فأتى بقوله :" مِنْ غَيْرِ سُوءٍ " نفياً لذلك.
قوله :" آيَةً " فيها أوجه : أحدها : أن يكون حالاً، أعني أنها بدل من ب " بَيْضَاءَ " الواقعة حالاً.
الثاني : أنها حالٌ من الضمير في " بَيْضَاء ".
الثالث : أنها حالٌ من (الضمير في) الجار والمجرور.
والرابع : أنها منصوبة بفعل محذوف، فقدره أبو البقاء : جعلنَاهَا آيَةً، (أو آتيناك) آيةً.
وقدره الزمخشري : خُذْ آيَةً، وقدر أيضاً : دونك آية.
ورد أبو
٢١٩
حيان هذا، لأن ذلك من باب الإغراء، ولا يجوز إضمار الظروف في الإغراء.
قال : لأن العامل حُذِف وناب هذا مكانه، فلا يجوز أن يحذف النائب أيضاً، وأيضاً فإن أحكامها تخالف العامل الصريح، فلا يجوز إضمارها وإن جاز إضمارها وإن جاز إضمار الأفعال.
فصل يقال لكل ناحيتين، جَنَاحان كجناحي العسكر لطرفيه، وجناحا الإنسان جانباه والصل المستعار منه جناحا الطائر، لأنه يجنحها عند الطيران.
وجناحا الإنسان عَضُدَاه أي : اضمم يدّك إلى إبْطِكَ تخرج بيضاء نيرة مشرقة من غير سوء وعن ابن عباس :" إلى جَنَاحِكَ " أي إلى صدرك.
والأول أولى، لأن يدي الإنسان يشبهان جناحي الطائر، ولأنه قال :" تَخْرُج بَيْضَاءَ " ولو كان المراد بالجناح الصدر لم يكن لقوله " تَخْرُج " معنى.
ومعنى ضم اليد إلى الجناح ما قاله في آية أخرى " وَأدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ "، لأنه إذا أدخل يده في جيبه كان كأنه قد ضم يده إلى حناحه.
والسوءُ : الرداءة والقبح في كل شيء، وكنّى عن البَرَص كما كنّى عن العورة
٢٢٠