الثاني : أنَّ موسى - عليه السلام - لما هدده بالعذاب في قوله :﴿أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى ﴾ [طه : ٤٨] قال فرعون :﴿قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى ﴾ فإنها كذبت ولم يعذبوا ؟ الثالث : وهو الأظهر، وأن فرعون لما قال :﴿فَمَن رَّبُّكُمَا يا مُوسَى ﴾ [طه : ٤٩] فذكر موسى - عليه السلام - دليلاً ظاهراً على صحة دعواه فقال :﴿رَبُّنَا الَّذِى أَعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ﴾ [طه : ٥٠] خاف فرعون أن يزيد في تلك الحجة، فيظهر للناس صدقه، وفساد طريق فرعون، فأراد أن يصرفه عن ذلك الكلام، ويشغله بالحكايات فقال :﴿فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى ﴾ فلم يلتفت موسى - عليه السلام - إلى ذلك الحديث وقال : عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ " ولا يتعلق غرضي بأحوالهم، ولا أشتغل بها، ثم عاد إلى تتميم كلامه الأول، وإبراز الدلائل الظاهرة على الوحدانية فقال ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً﴾، وهذا الوجه هو المعتمد في صحة النظم.
فإن قيل : العلمُ الذي عند الرب، كيف يكون في الكتاب ؟ وذلك أن علم الله صفة قائمة به، فكون صفة الشيء حاصلة في كتاب غير معقول، فذكروا في الجواب وجهين : الأول : معناه : أنه تعالى أثبت تلك الأحكام في كتاب عنده ليكون ما كتبه فيه ظاهراً للملائكة، فيكون ذلك زيادة لهم في الاستدلال على أنه تعالى عالم بكل المعلومات ينزه عن السهو والغفلة، ولقائل أن يقول : قوله :" فِي كِتَابٍ " يوهم احتياجه سبحانه في العلم إلى ذلك الكتاب، وهذا وإن كان غير واجب لا محالة ولكنه لا أقل من أن يوهمه في أولالأمر لا سيما للكافر، فكيف يحسن ذكره مع معاندٍ مثل فرعون في وقت الدعوة ؟ الوجه الثاني : أن يفسِّر ذلك بأن بقاء تلك المعلومات في علمه سبحانه كبقاء المكتوب في الكتاب، فيكون الغرض من هذا الكلام تأكيد القول بأن أسرارها مغلومة لله تعالى بحيث لا يزول منها شيء عن علمه، ويؤكد هذا التفسير قوله بعد ذلك :﴿لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى﴾.
٢٧٠
وقيل : إنما ردَّ موسى علم ذلك إلى الله، لأنه لم يعلم ذلك فإن التوراة أنزلت بعد هلاك فرعون والمراد بالكتاب : اللوحُ المحفوظ.
قوله :﴿عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي﴾ في خبر هذا المبتدأ وجوه : أحدها : أنَّه " عِندَ رَبِّي " وعلى هذا فقوله :" فِي كِتَابٍ " متعلق بما تعلق به الظرف من الاستقرار، أو متعلق بمحذوف على أنه حال من الضمير المستتر في الظرف، أو خبر ثان.
الثاني : أن الخبر قوله :﴿عِندَ رَبِّي﴾، فَعَلى هذا قوله :﴿فِي كِتَابٍ﴾ معمول للاستقرار الذي تعلق به " في كتاب " كما تقدم في عكسه، أو يكون حالاً من الضمير المستتر في الجار الواقع خبراً، وفيه خلاف أعني تقديم الحال على عاملها المعنوي، والأخفش يجيزه ويستدل بقراءة :﴿وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾ [الزمر : ٦٧] وقوله : ٣٦٦٢ - رَهْطُ ابْنِ كُوزٍ مُحْقِبي أَدْرَاعِهِمْ
فِيِهِمْ وَرَهْطُ رَبِيعَةَ بن حُذَارِ
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٢٦٩
٢٧١
وقال بعض النحويين : إنه إذا كان العامل معنوياً والحال ظرف أو عديله حَسُنَ التقديم عندالأخفش وغيره، وهذا منه، أو يكون ظرفاً للعلم نفسه، أو يكون حالاً من المضاف إليه، وهو الضمير في " عِلْمُهَا " ولا يجوز أن يكون " فِي كِتَابٍ " متعلقاً بـ " عِلْمُهَا " على قولنا : إنَّ " عِنْدَ رَبِّي " الخبر، كما جاز تعلق " عِنْدَ " بِهِ، لئلا يلزم الفصل بين المصدر ومعموله بأجنبي وقد تقدم أنه لا يخبر عن الموصول إلا بعد تمام صلته.
الثالث : أن يكون الظرف وحرف الجر معاً خبراً واحداً في المعنى فيكون بمنزلة : هذا حلوٌ حامضٌ، قاله أبو البقاء.
وفيه نظر إذ كل منهما يستقل بفائدة الخبرية بخلاف هذا حُلْوٌ حامِضٌ.
والضمير في " عِلْمُهَا " فيه وجهان : أظهرهما : عوده على " القُرُونِ " والثاني : عوده على القيام لدلالة ذكر " القُرُونِ " على ذلك لأنه سأله عن بعث الأمم، والبعث يدل على يوم القيامة.
قوله :﴿لاَّ يَضِلُّ رَبِّي﴾ في هذه الجملة وجهان : أحدهما : أنَّها في محل جر صفة لـ " كِتَاب "، والعائد محذوف تقديره : فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّه رَبِّي، أو لا يضل حفظَه رَبِّي، فـ " رَبِّي "، فاعل " يَضِلُّ " على هذا التقدير.
وقيل : تقديره : لا يَضِلُّ الكتابُ رَبِّي، فيكون في " يَضِلُّ " ضمير يعود على الكتاب، و " رَبِّي " منصوب على التعظيم، وكان الأصل عن ربي، فحذف الرحف اتساعاً.
٢٧٢


الصفحة التالية
Icon