قال شهاب الدين : يعني : أن هذا البيتَ صعبُ الإعراب، وإذ قد ذكر ذلك فلنذكر ما ورد في هذا البيت من الروايات، وما قاله الناس في ذلك على حسب ما يليق بهذا الموضوع، فأقول وبالله الحول : روي هذا البيت بثلاث روايات كل واحدة لا تخلو من ضرورة.
الأولى :(لَمْ يَدَع) بفتح الياء والدال، ونصب مُسْحَت وفي هذه خمسة أوجه : الأول : أن معنى (لَمْ يَدْعُ مِنَ المَالِ مُسْحَتاً) لم يبق إلا مُسْحَتٌ، فلما كان هذا في قوة الفاعل عطف عليه قوله :(أو مُجَلَّفُ) (بالرفع)، وبهذا البيت استشهد الزمخشري على قراءة أبَيّ والأعمش ﴿فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلٌ﴾ [البقرة : ٢٤٩] (برفع قليل) وقد تقدم.
الثاني : أنه مرفوع بفعل مقدر دل عليه (لَمْ يَدَع) والتقدير : أو بقي مُجَلَّف.
الثالث : أن (مُجَلَّف) مبتدأ وخبره مضمر، تقديره : أو مُجَلَّفٌ كذلك وهو تخريج الفراء.
٢٩٢
الرابع : أنه معطوف على الضمير المستتر في " مُسْحَتاً " وكان من حق هذا أن يفصل بينهما بتأكيد ما إلا أنَّ القائل بذلك وهو الكسائي لا يشترط، وأيضاً " فهو جائز (في الضرورة) عند الكل.
الخامس : أن يكون (مُجَلَّفُ) مصدراً بزنة اسم المفعول، كقوله تعالى :﴿كُلَّ مُمَزَّقٍ﴾ [سبأ : ٧] أي تجليف وتمزيق، وعلى هذا فهو نسق على " عَضُّ زَمَانٍ " إذ التقدير : رَمَتْ بِنَا هُمُومُ المُنَى وعَضَّ زَمَانٍ أو تجليفٍ فهو فاعل لعطفه على الفاعل، وهو قول الفارسي، وهو أحسنها.
الرواية الثانية : فتح الياء وكسر الدال ورفع مُسْحَت، وتخريجها واضح، وهو أن يكون من ودع في بيته يدع فهو وادع بمعنى بقي يبقى فهو باق، فيرتفع " مُسْحَت، وتخريجها واضح، وهو أن يكون من ودع في بيته يدع فهو وادع بمعنى بقي يبقى فهو باق، فيرتفع " مُسْحَتٌ " بالفاعلية، ويرفع (مُجَلَّفٌ) بالعطف عليه ولا بد حينئذ من ضمير محذوف تقديره : من أجله أو بسببه ليرتبط الكلام.
٢٩٣
الرواية الثالثة :(يُدَع) بضم الياء وفتح الدال على ما يسمَّ فاعله و ( مُسْحضتٌ) بالرفع لقيامه مقام الفاعل و (مُجَلَّف) عطف عليه، وكان من حق الواو أن لا تحذف بل تثبت، لأنها لم تقع بين ياء وكسرة، وإنما حذفت حملاً للمبني للمفعول على المبني للفاعل.
وفي البيت كلام أطول من هذا تركته اختصاراً، وهذا لبُّه، وقد ذكرته في البقرة، وفسرت معناه ولغته، وصلته بما قبله فعليك بالالتفات إليه.
قوله :﴿فَتَنَازَعُوا ااْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ﴾ أي : تفاوَضُوا وتشاوَرُوا واستقروا على شيء واحد.
وقال مقاتل : اختلفوا فيما بينهم.
قال محمد بن إسحاق ووهب : لما قال لهم موسى ﴿لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ كَذِباً﴾ قال بعضهم لبعض : ما هذا بقول ساحر.
قال بعض المفسرين إن فرعون وقومه دخلوا مع السحرة وحدهم، أي تناظروا وتشاوروا في أمر موسى سرًّا من فرعون.
قال الكلبي : قالوا سرًّا إن غَلَبَنَا موسى اتبعناه.
وهو قول ابن عباس.
قوله :﴿وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى ﴾ أي المناجاة يكون مصدراً واسماً، أي : أسروا النحوى من فرعون.
قال ابن عباس : إنَّ نجواهُم إن غلبنا موسى اتبعناه.
وقال قتادة : إنْ كانَ ساحراً فسنغلبه وإن كان من السماء وإن كان من السماء فله أمر.
وقال السدي : نجواهم هو قولهم :﴿قَالُوا ااْ إِنْ هَـاذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ﴾ [طه : ٦٣].
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٢٩٠
قوله :" إنْ هَذَانِ " اختلف القراء في هذه الآية فقرأ بن كثير وحده :" إنْ
٢٩٤
هَذَانِ " بتخفيف " إنْ " والألف وتشديد النون.
وحفص كذلك إلا أنه خفف نون " هذانِ " وقرأ أبو عمر " إنَّ " بالتشديد " هَذَيْنِ " بالياء وتخفيف النون.
والباقون كذلك إلا أنهم قرءوا " هذانِ " بالألف.
فأما القراءة الأولى، وهي قراءة ابن كثير وحفص فأوضح القراءات معنًى ولفظاً وخطاً، وذلك أنهما جعلا (إن) المخففة من الثقيلة فأهملت، ولما أهملت كما هو الأفصح من وجهها خيف التباسها بالنافية فجيء باللام فارقةً في الخبر، فـ " هَذَانِ " مبتدأ، و " لَسَاحِرَانِ " خبره، ووافقت خط المصحف، فإن الرسم " هَذَانِ " مبتدأ، و " لَسَاحِرَانِ " خبره، ووافقت خط المصحف، فإن الرسم " هَذَانِ " دون ألف ولا ياء (وسيأتي بيان ذلك).
وأما تشديد نون " هَذَانِّ " فعلى ما تقدم في سورة النساء متقناً، وأما الكوفيون فيزعمون أنَّ " أنْ " نافية (بمعنى (ما)) واللام (إلآ) وهو خلاف مشهور، وقد وافق تخريجهم هنا قراءة بعضهم ﴿مَا هَذَانِ إلاَّ ساَحِرَانِ﴾.
وأما قراءة أبي عمرو فواضحة من حيث الإعراب والمعنى، أما الإعراب فـ " هَذَيْنِ " اسم " إنَّ " وعلامة نصبه الياء، و " لَسَاحِرَانِ " خبرها، ودخلت اللام توكيداً، وأما من حيث المعنى فإنهم أثبتوا لهما السحر بطريق تأكيدي من طرفيه، ولكنهم استشكلوها
٢٩٥


الصفحة التالية
Icon