٣٠٧
كالمحقق إذا علم في أن قلب واحد شبهو، وأنه لو لم يطالبه وتقريرها بأقصى ما يقدر عليه لبقيت تلك الشبهة في قلبه ويخرج بسببها عن الدين، فإن للمحق أن يطالبه بتقريرها على أقصى الوجوهن ويكون غرضه من ذلك أن يجيب عنها، ويزيل أثرها عن قلبه، فمطالبته بذكر الشبهة لهذا الغرض جائز فكذا ههنا.
الرابع : أن لا يكون ذلك أمراً بل معناه : إنكم إن أردتم فعله فلا مانع منه حسًّا لكي ينكشف الحق.
الخامس : أن موسى - عليه السلام - لا شك أنه كان كارهاً لذلك ولا شك أنه نهاكم عن ذلك بقوله :﴿وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ﴾ [طه : ٦١] وإن كان كذلك استحال أن يأمرهم بذلك، لأن الجمع بين كونه ناهياً آمراً بالفعل الواحد محال، فعلمنا أن أمره غير محمول على ظاهره، وحينئذ يزول الإشكال.
فإن قيل : لم قدمهم في الألقاء على نفسه مع أن تقديم إسماع الشبهة على إسماع الحجة غير جائز، فكذا تقديم إرائة الشبهة على إرائة الحجة يجب أن لا يجوز، لاحتمال أنه ربما أدرك الشبهة ثم لا يتفرغ لإدراك الحجة بعده، فيبقى حينئذ في الكفر والضلال، وليس لأحد أن يقول : إن ذلك كان بسبب أنهم لما قدموه على أنفسهم فهو - عليه السلام - قابل ذلك بأن قدمهم، لأن أمثال ذلك إنما يحسن فيما يرجع إلى حظ النفس فأما ما يرجع إلى الدليل والشبهة فغير جائز.
فالجواب أنه - عليه السلام - كان قد أظهر المعجزة مرةً واحدةً فما كان به حاجة إلى إظهارها مرة أخرى، والقوم إنما جاءوا لمعارضته، فقال - عليه السلام - لو أظهرت المعجزة أولاًلكنت كالسبب في إقدامهم على إظهار السحر وقصد إبطال المعجزة وهولا يجوز، ولكنني أفوض المر إليهم باختيارهم على إظهار السحر وقصد إبطال المعجزة وهو لا يجوز، ولكنني أفوض الأمر باختيارهم يظهرون ذلك السحر، ثم أظهر أنا ذلك المعجز الذي يبطل سحرهم، فيكون هذا التقديم سبباً لدفع الشبهة فكان أولى.
٣٠٨
قوله :" فَإِذَا حِبَالُهُمْ " هذه الفاء عاطفة على (جملة محذوفة دل عليها السياق، والتقدير : فَألْقُوا فَإذَا، وإذا هي التي للمفاجأة وفيها ثلاثة أقوال تقدمت : أحدها : أنها باقية على ظرفية الزمان.
الثاني : أنها ظرف مكان.
الثالث : أنها حرف.
قال الزمخشري : والتحقيق فيها أنها الكائنة بمعنى الوقت الطالبة ناصباً لها، وجملة تضاف إليها، خصت في بعض المواضع بأن يكون الناصب لها فعلاً مخصوصاً، وهو فعل المفاجأة، والجملة ابتدائية لا غير، فتقدير قوله :﴿فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ﴾ ففَجأ موسى وقتَ تخييل سَعْي حِبَالهم وعصيّهم، وهذا تمثيل، والمعنى : على مفاجأته حبالهم وعصيّهم مخيِّلةً إليه السعي.
قال أبو حيان : قوله : إنها زمانية قول مرجوح، وهو مذهب الرياشي.
وقوله : الطالبة ناصباً لها صحيح.
وقوله : وجملة تضاف إليها ليس صحيحاً عند
٣٠٩
بعض أصحابنا، لأنها إما أن تكون معمولة لخبر المبتدأ، وإذا كان كذلك استحال أن تضاف إلى الجملة، لأنها إما أن تكون بعض الجملة أو معمولة لبعضها، فلا يمكن الإضافة.
وقوله : خصت في بعض المواضع إلى آخره.
قد بيَّنا الناصبَ لها.
وقوله : والجملة بعدها ابتدائية لا غير هذا الحصر ليس بصحيح، بل جوَّز الأخفش على أن الجملة الفعلية المقترنة بقد تقع بعدها نحو خرجت فإذا قد ضرب زيد عمراً وبنى على ذلك مسألة الاشتغال نحو : خرجتُ فإذا زيدٌ قد ضربه عمرو، برفع زيد ونصبه على الاشتغال.
وقوله : والمعنى على مفاجأته حبالهم وعصيهم مخيَّلةً إليه السعي، فهذا عكس ما قدر بل المعنى على مفاجأة حبالهم وعصيِّهم إياه.
فإذا قلت : خرجت فإذا السبع، فالمعنى : أنه فاجأني وهجم ظهوره.
انتهى.
قال شهاب الدين : وما ردَّ به غير لازم له، لأنه ردَّ عليه بقول بعض النحاة، وهو يلزم ذلك القول حتى يرد به عليه لا سيما إذا كان المشهور غيره ومقصوده تفسير المعنى.
وقال أبو البقاء : الفاء جواب ما حذف وتقديره : فألقوا فإذا، فـ " إذا " في هذا ظرف مكان العامل فيه " ألْقُوا ".
وفي هذا نظر.
، لأن " أَلْقُوا " هذا المقدر لا يطلب جواباً حتى يقول : الفاء جوابه، بل كان ينبغي أن يقول : الفاء عاطفة هذه الجملة الفجائية على جمبة أخرى مقدرة، وقوله : ظرف مكان هذا مذهب المبرد، وظاهر قول سيبويه أيضاً وإن كان المشهور بقاؤها على الزمان وقوله : إن العامل فيها " فَألْقُوا " لا يجوز لأن الفاء تمنع من ذلك.
هذا كلام أبي حيان.
ثم قال بعده : ولأن " إذا " هذه إنما هي معمولة لخبر المبتدأ الذي هو حبالهم وعصيهم إن لم يجعلها هي في موضع الحال، وهذا نظير : خرجت فإن الأسد رابضٌ ورابضاً، وإذا رفعت رابضاً كانت إذا معمولة له والتقدير : فبالحضرة الأسد رابض، أو في المكان، وإذا نصبت كات " إذا " خبراً، ولذلك
٣١٠


الصفحة التالية
Icon