والثاني : أنه شبه تمكنهم بتمكن مَنْ حواء الجذع واشتمل عليه، شبه تمكن المصلوب في الجِذْعِ بتمكُّن الشيء الموعَى في وعائه، فلذلك قيل " فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ".
ومِنْ تَعدِّي (صَلَبَ) بـ (فِي) قوله : ٣٦٧٦ - وَقَدْ صَلَبُوا العَبْدِيَّ فِي جِذْعِ نَخْلَةٍ
فَلاَ عَطَسَتْ شَيْبَانُ إلاَّ بِأَجْدَعَا
قوله :" أيُّنَا أَشَدُّ " مبتدأ وخبر، وهذه الجملة سادة مسد المفعولين إنْ كانت (علم) على بابها، ومسد واحد إنْ كانت عِرفَانِيَّة.
وبجوز على جعلها عِرْفَانِية أن
٣٢٠
تكون " أيْنَا " موصولة بمعنى (الذي) وينبت لأنها قد أضيفت وحذف صدر صلتها و " أَشَدُّ " خبر مبتدأ محذوف، والجملة من ذلك المبتدأ وهذا الخبر صلة لـ " أَيّ "، و " أَيُّ " وما في خبرها في محل نصب مفعولاً به كقوله تعالى :﴿ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَـانِ﴾ [مريم : ٦٩] في أحد وجهيه كما تقدم.
و " أَشَدُّ عذاباً " أي : أَنَّا عَلى إيمانُكم بهِ أو رَبّ موسى على تلاك الإيمان به، " وَأَبْقَى " أي : أَدْوَمْ.
فإن قيل : إنَّ فرعون مع قرب عهده بمشاهدة انقلاب العصا حيَّة عظيمة، وذكر أنها قصدت ابتلاع قصر فرعون، وآلَ الأمرُ إلى أنْ استغاثَ بموسى من شر ذلك الثعبان، فمع قرب عهده بذلك، وعجزه عن دفعه كيف يعقل أن يهدد السحرة، ويبالغ في وعيدهم إلى هذا الحد، ويستهزئ بموسى، ويقول :" أيّنا أَشَدُّ عذاباً " ؟ فالجواب : يجوز أن يقال : إنَّه كان في أشد الخوف في قلبه إلا أنَّه كان يظهر الجلادة والوقاحة تمشيةٌ لِنَامُوسِهِ، وترويجاً لأمره.
ومن استقرى أحوال أهل العالم علم أنَّ العاجز قد يفعل أمثال هذه الأشياء، ويدل على صحة ذلك أن كل عاقل يعلم بالضرورة أن عذابَ الله أشدُّ من عذاب البشر، ثم إنه أنكر ذلك.
وأيضاً : فقد كان عالماً بكذبه في قوله :﴿إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ﴾ لأنه علم أنْ موسى ما خالطهم البتة، وما لقيهم، وكان يعرف من سحرته ويعرف أستاذ كل واحد من هو، وكيف حصَّلَ ذلك العلم، ثم إنه مع ذلك قال هذا الكلام، فثبت أن سبيله في ذلك ما ذكرناه، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : كانوا في النهار سحرة، وفي آخره شهداء.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٣١٩
قوله :﴿قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَآءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ﴾ أي لن نختارك على ما جاءنا من
٣٢١
الدلالات.
لمَّا هددهم فرعون أجابوه بما يدل على حصول اليقين التام والبصيرة الكاملة في أصول الدين، فقالوا :" لَنْ نُؤْثِرَكَ "، وهذا يدل على أن فرعون طلب منهم الرجوع عن الإيمان وإلاَّ فَعَل بهم وما وعدهم، (فأجابوه بقولهم) :" لَنْ نُؤْثِرَكَ "، وبيَّنوا العلة، وهي أنَّ الذي جاءهم ببينِّات وأدلة، والذي يذكره فرعون محض الدنيا.
وقيل : كان استدلالهم أنهم قالوا : لو كان هذا سحراً فأين حبالُنا وعصيُّنا.
قوله :" والَّذِي فَطَرَنَا " فيه وجهان : أحدهما : أن الواوَ عاطفة عطفت (هذا الموصول) على " مَا جَاءَنَا " أي : لن نؤثرك على الذي جاءَنا وَلاَ عَلَى الذي فَطَرَنَا، أي على طاعة الذي فطرنا وعلى عبادته، وإنما أخروا ذكر الباري تعالى لأنَّه من باب الترقي من الأدْنَى إلى الأعلى.
والثاني : أنَّه واو قسم، والموصول مقسم به، وجواب القسم محذوف، أي وحق الذي فطرنا لن نؤثرك على الحق، ولا يجوز أن يكونَ الجواب " لَنْ نُؤَثِرًكَ " عند من يجوز تقديم الجواب، لأنه لا يجاب القسم بـ " لَنْ " إلا في شذوذ من الكلام.
قوله :﴿فَطَرَنَا فَاقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ﴾ يجوز في " مَا " وجهان : أظهرهما : أنها موصولة بمعنى الذي، و " أَنْتَ قَاضٍ " صلتها والعائد محذوف، أي
٣٢٢
قاضية، وجاز حذفه وإن كان مخفوضاً، لأنه منصوب المحل، أي فاقضِ الذي أنت قاضيه.
والثاني : أنها مصدرية ظرفية، والتقدير : فاقْضِ أمرَك مدة ما أنتَ قاضٍ.
ذكر ذلك أبو البقاء.
ومنع بعضهم جعلّها مصدرية، قال : لأنَّ " مَا " المصدرية لا توصل بالجمل الاسمية.
وهذا المنع ليس مجمعاً عليه بل جوَّز ذلك جماعة كثيرة، ونقل ابن مالك أن ذلك إذا دلَّت (ما) على الظرفية وأنشد : ٣٦٧٧ - وَاصِلْ خَلِيلَكَ مَا التَّوَاصُلُ مُمْكِنٌ
فَلاَنْتَ أَوْ هُوَ عَنْ قَلِيلٍ ذَاهِبُ
ويقل إن كانت غيره ظرفية وأنشد : ٣٦٧٨ - أَحْلاَمُكُمْ لِسَقَامِ الجَهْلِ شَافِيَةٌ
كَمَا دِمَاؤُكُمُ تَشْفِي مَنَ الكَلَبِ
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٣٢١
٣٢٣