يعني : أنهم جامعون بين هذه الأوصاف إن قيل : إن المراد بها واحد.
والثاني : أن يكونوا غيرهم.
وعلى كلا القولين، فيحكم على موضعه بما حكم على موضع " الَّذِين " المتقدمة من الإعراب رفعاً ونصباً وجرًّا قطعاً وإتباعاً كما مر تفصيله.
ويجوز أن يكون عطفاً على " المتقين "، وأن يكون مبتدأ خبره " أولئك "، وما بعدها إن قيل : إنهم غير " الذين " الأولى.
و " يؤمنون " صلة وعائد.
و " بما أنزل " متعلّق به و " ما " موصولة اسمية، و " أنزل " صلتها، وهو فعل مبني للمفعول، لعائد هو الضَّمير القائم مقام الفاعل، ويضعف أن يكون نكرة موصوفة وقد منع أبو البقاء ذلك قال : لأن النكرة الموصوفة لا عموم فيها، ولا يكمل الإيمان إلا بجميع ما أنزل.
٢٩٥
و " إليك " متعلّق بـ " أنزل "، ومعنى " إلى " انتهاء الغاية، ولها معان أخر : المُصَاحبة :﴿وَلاَ تَأْكُلُوا ااْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾ [النساء : ٢].
والتبيين :﴿رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ﴾ [يوسف : ٣٣].
وموافقة اللام و " في " و " من " :﴿وَالأَمْرُ إِلَيْكِ﴾ [النمل : ٣٣] أي : لك.
وقال النابغة :[الطويل] ١٣٠ - فَلاَ تَتْرُكَنِّي بِالوَعِيدِ كَأَنِّنِي
إِلى النَّاسِ مَطْلِيٌّ بِهِ الْقَارُ أَجْرَبُ
وقال الآخر :[الطويل] ١٣١ -.....................
أَيُسْقَى فَلاَ يُرْوَى إِلَيَّ ابْنُ أَحْمَرَا
أي : لا يروى منّي، وقد تزاد ؛ قرىء :" تَهْوَى إليهم " [إبراهيم : ٣٧] بفتح الواو.
و " الكاف " في محل جر، وهي ضمير المُخَاطب، ويتّصل بها ما يدل على التثنية والجمع تذكيراً وتأنيثاً كـ " تاء " المُخَاطب.
ويترك أبو جعفر، وابن كثير، وقالون، وأبو عمرو، ويعقوب كل مَدّة تقع بين كلمتين، والآخرون يمدونها.
و " النزول " الوصول والحلول من غير اشتراط عُلُوّ، قال تعالى :﴿فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ﴾ [الصافات : ١٧٧] أي حلّ ووصل.
قال ابن الخطيب : والمراد من إنزال الوَحْي، وكون القرآن منزلاً، ومنزولاً به -
٢٩٦
أن جبريل سمع في السماء كلام الله - تعالى - فنزل على الرسول به، كما يقال : نزلت
٢٩٧
رسالة الأمير من القَصْر، والرسالة لا تنزل ولكن المستمع يسمع الرسالة من عُلوّ، فينزل ويؤدي في سفل، وقول الأمير لا يُفَارق ذاته، ولكن السامع يسمع فينزل، ويؤدي بلفظ نفسه، ويقال : فلان ينقل الكلام إذا سمع وحدث به في موضع آخر.
فإن قيل : كيف سمع جبريل كلام الله تعالى ؛ وكلامه ليس من الحروف والأصوات عندكم ؟ قلنا : يحتمل أن يخلق الله - تعالى - له سمعاً لكلامه، ثم أقدره على عبارة يعبر بها عن ذلك الكلام القديم، ويجوز أن يكون الله - تعالى - خلق في اللَّوح المحفوظ كتابةً بهذا النظم المخصوص، فقرأه جبريل - عليه السلام - فحفظه، ويجوز أن يخلق الله
٢٩٨
أصواتاً مقطّعة بهذا النظم المخصوص في جسم مخصوص، فيتلقّفه جبريل - عليه السلام - ويخلق له علماً ضرورياً بأنه هو العبارة المؤدّية لكعنى ذلك الكلام القديم.
فصل في معنى فلان آمن بكذا قال ابن الخطيب : لا نزاع بين أصحابنا وبين المعتزلة في أن الإيمان إذا عدّى بـ " الباء " فالمراد منه التصديق.
فإذا قلنا : فلان آمن بكذا، فالمراد أنه صدق به، فلا يكون المراد منه أنه صام وصلى، فالمراد بالإيمان - هاهنا - التصديق، لكن لا بُدّ معه من المعرفة ؛ لأن الإيمان - هاهنا - خرج مخرج المدح، والمصدق مع الشّك لا يأمن أن يكون كاذباً، فهو إلى الذَّم أقرب.
و " ما " الثانية وَصِلَتُهَا عطف " ما " الأولى قبلها، والكلام عليها وعلى صِلَتِهَا كالكلام على " ما " التي قبلها، فتأمله.
واعلم أن قوله :" الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ " عام يتناول كل من آمن بمحمد عليه الصلاة والسلام، سواء كان قبل ذلك مؤمناً بموسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام، أو لم يكن مؤمناً بهما، ثم ذكر بعد ذلك هذه الآية وهي قوله :﴿والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ﴾ [البقرة : ٤] يعني : التوراة والإنجيل ؛ لأن في هذا التخصيص مزيد تشريف لهم كما في قوله :﴿وَمَلا اائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ [البقرة : ٩٨]، ثم في تخصيص عبد الله بن سلام، وأمثاله بهذا التشريف ترغيبٌ لأمثاله في الدِّين، فهذا هو السبب في ذكر هذا الخاص بعد ذكر العام.
و " من قبلك " متعلّق بـ " أنزل "، و " من " لابتداء الغاية، و " قبل " ظرف زمان يقتضي التقدم، وهو نقيض " بعد "، وكلاهما متى نُكّر، أو أضيف أعرب، ومتى قطع عن الإضافة لفظاً، وأريدت معنى بني على الضم، فمن الإعراب قوله :[الوافر] ١٣٢ - فَسَاغَ لِيَ الشَّرَابُ وَكُنْتُ قَبْلاً
أَكَادُ أَغَصُّ بِالمَاءِ الْقَرَاحِ
جزء : ١ رقم الصفحة : ٢٩٥
٢٩٩
وقال الآخر :[الطويل] ١٣٣ - وَنَحْنُ قَتَلْنَا الأُسْدَ أُسْدَ خَفِيَّةٍ
فَمَا شَرِبُوا بَعْدَاً عَلَى لذَّةٍ خَمْراً


الصفحة التالية
Icon