المكلِّفين أنفسهم، ذكرَ " الوجوه " وأراد أصحاب الوجوه، لأن قوله " وَعَنَتْ " من صفات المكلفين لا من صفات الوجوه كقوله :﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ﴾ [الغاشية : ٨، ٩] وخص الوجوه بالذكر، لأن الخضوع بها يبين، وفيها يظهر.
وتقدم تفسير " الحَيُّ القَيُّومُ " وروى أبو أمامة الباهليّ عن النبي - ﷺ - أنه قال :" اطلبوا اسمَ الله الأعظم في هذه السُّور الثلاث البَقَرة وآل عمران، وطه " قال الراوي : فوجدنا المشترك في السور الثلاث ﴿اللَّهُ لاَ إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ [البقرة : ٢٥٥، آل عمران : ٢].
قوله :" وَقَدْ خَابَ " يجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفة، وأن تكون حالاً، ويجوز أن يكون اعتراضاً.
قال الزمخشري :" وَقَدْ خَابَ " وما بعده اعتراض كقولك خَابُوا وخَسِرُوا، وكل من ظلم فهو خائِبٌ خَاسِر.
ومراده بالاعتراض هنا أنَّه خصَّ الوجوه بوجوه العصاة حتى تكون الجملة قد دخلت بين العُصَاة وبين ﴿وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ﴾ فَهذَا عنده قسيم " وَعَنَتْ الوُجُوهُ " فلهذا كان اعتراضاً.
وأما ابن عطية فجعل " الوُجُوهُ " عامة، فلذلك جعل ﴿وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً﴾ معادلاً بقوله ﴿وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ﴾ إلى آخره.

فصل قال ابن عباس :" خَابَ " خَسِر من أشْرَكَ بالله.


والظُّلمُ : الشِّرك قال الله تعالى ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان : ١٣] والمراد بالخيبة : الحِرمان، أي : حُرِم الثواب مَنْ حَمَل ظُلْماً، أي ظلم ولم يتب.
ثم قال :﴿وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ (وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ ) أي : ومَنْ يَعمل شيئاً مِنَ الصَّالِحَاتِ، والمراد به الفرائض وكان عمله مقروناً
٣٩٥
بالإيمان، نظيره قوله :﴿وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ﴾ [طه : ٧٥].
قوله :" وَهُوَ مُؤْمِنٌ " جملة حالية.
" فَلاَ يَخَافُ " قرأ بن كثير (بجزمه) على النهي، والمعنى : أَمِنَ، والنهي عن الخوف أمر بالأمن.
والباقون : برفعه على النفي والاستئناف، أي : فهو لا يخاف.
والهضم : النقصُ تقول العرب : هَضَمَتْ لزيدٍ مِنْ حَقِّي أي : نقصتُ منه، ومنه : هَضِيمُ الكَشْحَيْن أي : ضامُرُها، ومن ذلك أيضاً، " طَلْعُهَا هَضِيمٌ " أي : دقيق متراكب كأنَّ بعضه يظلم بعضاً فينتقصه حقه.
ورَجلٌ هضيمٌ أي مظلوم.
وهضمته واهتضمته وتَهَّضمتُه عليه بمعنى، قال المتوكل الليثي : ٣٦٩٤ - إنَّ الأذلَّةَ واللِّئَامَ لمِعْشَرٍ
مَوْلاَهُم المُتَهَضَّم المَظْلُومُ
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٣٨٨
قيل : والظلم والهضم متقاربتان وفرَّق القاضي الماوردي بينهما فقال : الظلم من جميع الحق، والهضم منع بعضه.
والظلمُ هنا هو أن يعاقب لا على جريمةٍ
٣٩٦
أو يمنع من الثواب على الطاعة.
والهضم هو أن ينقص من ثوابه.
وقال أبو مسلم : الظلم أن ينقص من الثواب، والهضم أن لا يوفي حقه.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٣٨٨
قوله :" وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ " نسق على " كَذَلِكَ نَقُصُّ " قال الزمخشري " ومثل ذلك الإنزال وكما أَنْزَلْنَا عليك هؤلاء الآيات أنزلنا القرآن كلَّه على هذه الوتيرة.
وقال غيره : والمَعْنَى كما قدَّرنا هذه الأمور وجعلناها حقيقة بالمرصاد للعباد كذلك حذَّرْنَا هؤلاء أمرها، ﴿أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً﴾ لتفهمه العرب فيقفوا على إعجازه ونظمه، وخروفه عن الكلام البشري.
﴿وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ﴾ أي : كرَّرْنَاهُ وفصَّلْنَاهُ.
قوله :" مِنَ الوَعِيدِ " صفة لمَفْعُولٍ محذوف، أي : صرَّفنا في القرآن وعيداً من الوعيد، والمراد به الجنس.
ويجوز أن تكون " مِنَ " مزيدة على رأي الأخفش في المفعول به، والتقدير : وصرَّفنا فيه الوعيد " لَعَلَّهُمْ يَتَّقُون " أي يجتنبون الشرك.
﴿أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً﴾ أي : يجدد لهم القرآن عبرة وعظة.
وقرأ الحسن :" أَوْ يُحْدِثْ " كالجماعة إلا أنه سكَّن لام الفعل وعبد الله والحسن أيضاً في رواية ومجاهد وأبو حيوة " نُحْدِثْ " بالنون، وتسكين اللام أيضاً.
(وخُرِّجَ علَى) إجراء الوصل مجرى الوقف، أو على تسكين الفعل استثقالاً للحركة، كقول امرئ القيس :
٣٩٧
٣٦٩٥ - فَاليَوْمَ أَشْرَبُ غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ
وقول جرير :
٣٦٩٦ - أَوْ نَهْرُ تِيرَى فَلاَ تَعْرِفُكُمُ العَربُ


الصفحة التالية
Icon