محذوف تقدره : أفلم يُبَيِّن اللهُ لهم العبرَ وفعله بالأمم المكذبة.
قال أبو البقاء : وفي فاعله وجهان : أحدهما : ضمير اسم الله تعالى وعلَّق (بَيَّن) هنا، إذا كانت بمعنى أعلم كما علقه في قوله تعالى ﴿وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ﴾ [إبراهيم : ٤٥].
قال أبو حيَّان : و " كَمْ " هنا خبرية، والخبرية لا تعلِّق العامل (عنها).
وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون فيه ضمير الله، أو الرسول، ويدل عليه القرءان بالنون.
الوجه الثاني : أنَّ الفاعل مضمر يفسره ما دلَّ عليه من الكلام بعده، قال الحوفي :" كَمْ أهْلَكْنَا " قد دَلَِّ على هلاك القرون التقدير : أَفَلَمْ نُبَيِّن لَهُمْ هَلاَكَ من أهلكنا من القرون ومَحْونا آثارَهم فيتعِظُوا بذَلِك.
وقال أبو البقاء : الفاعل ما دَلَّ عليه " اهْلَكْنا " أي إهْلاَكنا والجملة مفسرة له.
الوجه الثالث : أنَّ الفاعل نفس الجملة بعده.
قال الزمخشري : فاعل " لَمْ يَهْدِ " الجملة بعد يريد : أَلَمْ يَهْدِ لَهُم هذا بمعناه ومضمونه، ونظيره قوله :﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ سَلاَمٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ﴾ [الصافات : ٧٨، ٧٩] أي : تركنا عليه هذا الكلام.
قال أبو حيَّان : وكونُ الجملة فاعل " يَهْدِ " هو مذهب كوفيّ، وأما تشبيهه وتنظيره بقوله :﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ سَلاَمٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ﴾ [الصافات : ٧٨، ٧٩] فإن " تَرَكْنَا " معناه هذا القول فحكيتْ به الجملة، فكأنه قيل : وقُلْنَا عليه، وأطلقنا عليه هذا اللفظ، (والجملة تُحكَى بمعنى القول كما تُحْكَى بالقول).
٤١٨
الوجه الرابع : أنه ضمير الرسول - ﷺ - لأنه هو المبيّن لهم بما يوحى إليه من أخبار الأمم السالفة والقرون الماضية، وهذا الوجه تقدم نقلُه عن الزمخشري.
الوجه الخامس : أنَّ الفاعلَ محذوف، نقل ابن عطية عن بعضهم : أنَّ الفاعل مقدر تقديره : الهُدَى أو الأمرُ أو النَّظَرُ والاعتبارُ.
قال ابن عطيَّة : وهذا عندي أحسن التقادير.
قال أبو حيان : وهو قول المبرِّد، وليس بجيد إذ فيه حذف الفاعل، وهو لا يجوز عند البصريين، وتحسينه أن يقال : الفاعل مضمرٌ تقديره : يَهْدِ هُوَ أي : الهُدَى قال شهاب الدين : ليسَ في هذا القول أن الفاعل محذوف بل فيه أنه مقدر، ولفظ مقدَّر كثيراً ما يستعمل في المضمر.
وأما مفعول " يَهْدِ " ففيه وجهان : أحدهما : أنه محذوف.
والثاني : أن يكون الجملة من " كَمْ " وما في خبرها، لأنها معلقة له، فهي سادة مسد مفعوله.
٤١٩
الوجه السادس : أن الفاعل " كَمْ " - قاله الحوفي، وأنكره على قائله لأن " كَمْ " استفهام لا يعمل فيها ما قبلها.
قال أبو حيَّان : وليست " كَمْ " هنا استفهامية بل هي خبرية.
واختار أن يكونَ الفاعل ضمير الله تعالى، فقال : وأحسَنُ التخاريج أن يكون الفاعلُ ضميراً عائداً على الله تعالى، كأنَّه قال أَفَلَمْ يبيَّن الله، ومفعول يبين محذوف، أي العبرَ بإهلاك القرون السابقة، ثم قال :" كَمْ اهْلَكْنَا " أي : كثيراً أهلكنَا، فـ " كَمْ " مفعولة بـ " أهْلَكْنَا " والجملة كأنها للمفعول المحذوف لـ " يَهْدِ ".
قال القفَّال : جعل كثرة ما أهلك من القرون مبيِّناً لهم كما جعل مثل ذلك واعظاً لهم وزاجراً.
وقرأ ابنُ عباس وأبو عبد الرحمن السلمي " أَفَلَمْ نَهْدِ " بالنون المؤذنة بالتعظيم.
قال الزجاج : يعني أفَلَمْ نبيَِّن لهم بياناً يهتدون به لو تدبروا وتفكروا.
وقوله :" كَمْ أَهْلَكْنَا " فالمراد به المبالغة في كثرة مَنْ أهلكه الله تعالى من القرون الماضية.
قوله :" مِنَ القُرونِ " في مجحل نصب (نعت لـ " كَمْ " ) لأنَّها نكرة ويضعف جعلُه حالاً من النكرة، ولا يجوز أن يكون تمييزاً على قواعد البصريين
٤٢٠