أنَّ الباقي من مدة التكليف أقل من الماضي واعلم أنه إنما ذكر تعالى هذا الاقتراب لما فيه من مصلحة المكلفين ليكثر تحرزهم خوفاً منها.
ولم يعين الوقت، لأنَّ كتمان وقت الموت أصلح لهم والمراد بالناس من له مدخل في الحساب وهم المكلفون دون من لا مدخل فيه.
قال ابن عبس : المراد بالناس المشركون.
وهذا من إطلاق اسم الجنس على بعضه للدليل القائم، وهو ما يتلوه من صفات المشركين.
وقوله :﴿وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ﴾ وصفهم بالغفلة والإعراض، واما الغفلة فالمعنى : أنهم غافلون عن حسابهم ساهون لا يتفكرون في عاقبتهم مع اقتضاء عقولهم أنه لا بُدَّ من جزاء المحسن والمسيء، ثم إذا انتبهوا من سِنَة الغفلة، ورقدة الجهالة مما يتلى عليهم من الآيات أعرضوا وسدوا أسماعهم.
قوله :﴿مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ﴾ ذكر الله - تعالى - ذلك بياناً لكونهم معرضين، وذلك لأنَّ الله - يجدد لهم الذكر كل وقت، ويظهر لهم الآية بعد الآية، والسورة بعد السورة ليكرر على أسماعهم الموعظة لعلهم يتعظون، فما يزيدهم ذلك إلا استسخاراً.
قوله :" مُحْدِثٍ " العامة على جر " مُحْدِثٍ " نعتاً لـ " ذِكْرٍ " على اللفظ.
وقوله :" مِنْ رَبِّهِمْ " فيه أوجه : أجودها : انْ يتعلق بـ " يَأتِيهِمْ "، وتكون " مِنْ " لابتداء الغاية مجازاً.
والثاني : أنْ يتعلق بمحذوف على أنه حال من الضمير المستتر في " مُحْدِثٍ ".
الثالث : أنْ يكونَ حالاً من نفس " ذِكْرٍ "، وإنْ كان نكرة، لأنه قد تخصّص بالوصف بـ " مُحْدَثٍ "، وهو نظير : ما جاءني رجلٌ قائماً منطلقٌ، ففصل بالحال بين الصفة والموصوف.
وأيضاً فإنّ الكلام نفي وهو مسوغ لمجيء الحال من النكرة.
٤٤٢
الرابع : أن يكون نعتاً لـ " ذِكْرٍ " فيجوز في محله وجهان : الجر باعتبار اللفظ والرفع باعتبار المحل، لأنه مرفوع المحل إذ " مَن " مزيده فيه، وسيأتي.
وفي جعله نعتاً لـ " ذِكْرٍ " إشكال من حيث إنه تقدم غير الصريح، وتقدم تحريره في المائدة.
الخامس : أن يتعلق بمحذوف على سبيل البيان.
وقرأ ابن عبلة " محدثٌ " رفعاً نعتاً لـ " ذِكرٍ " على المحل، لأن " مِنْ " مزيدة فيه لاستكمال الشرطين.
٤٤٣
وقال أبو البقاء : ولو رفع على موضع " من ذكر " جاز.
كأنه لم يطلع عليه قراءة وزيد بن عليّ " مُحْدَثاً " نصباً على الحال من " ذِكْرٍ "، وسوغ ذلك وصفه بـ " مِنْ رَبِّهِمْ " إن جعلناه صفة.
قوله :" إلاَّ اسْتَمَعُوهُ " هذه الجملة حال من مفعول " يأتيهم " وهو استثناء مفرغ، و " قد " معه مضمرة عند قوم.
" وهم يلعبون " حال من فاعل " اسْتَمَعُوهُ " أي استمعوه لاعبين.
فصل قال مقاتل : معنى " مُحْدَثٍ " يحدث الله الأمر بعد الأمر.
وقيل : الذكر المحدث ما قاله النبي - ﷺ وبينه من السنن والمواعظ سوى ما في القرآن، وأضافه إلى الرب، لأنه أمره بقوله إِلاَّ " اسْتَمَعُوهُ " لاعبين لا يعتبرون ولا يتعظون.
فصل استدلت المعتزلة بهذه الآية على حدوث القرآن، فقالوا : القرآن ذكر، والذكر محدث، فالقرآن محدث، وبيان أن القرآن ذكر قوله تعالى في صفة القرآن :﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ﴾ [يوسف : ١٠٤، ص : ٨٧، التكوير : ٢٧] ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ﴾ [الزخرف : ٤٤] ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ﴾ [الحجر : ٩] ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ﴾ [يس : ٦٩] و ﴿وَهَـاذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ﴾ [الأنبياء : ٥٠].
وبيان أن الذكر محدث قوله :
٤٤٤
﴿مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ﴾ وقوله :﴿مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَـانِ مُحْدَثٍ﴾ [الشعراء : ٥] فالجواب من وجهين : الأول : أن قوله تعالى :﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ﴾ [يوسف : ١٠٤، ص : ٨٧، التكوير : ٢٧] وقوله ﴿وَهَـاذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ﴾ [الأنبياء : ٥٠] إشارة إلى المركب من الحروف والأصوات، وذلك مما لا نزاع فيه بل حدوثه معلوم بالضرورة، وإنما النزاع في قدر كلام الله تعالى بمعنى آخر.
الثاني : أن قوله :﴿مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ﴾ لا يدل على حدوث كل ما كان ذكراً، كما أن قول القائل : لاَ يَدْخل هذه البلدة رجلٌ فاضلٌ إلا يبغضونه فإنه لا يدل على أن كل رجل يجب أن يكون فاضلاً بل على أن من الرجال من هو فاضل، وإذا كان كذلك فالآية لا تدل إلا على أن بعض الذكر محدث، فيصير نظم الكلام : القرآن ذكر، وبعض الذكر محدث، وهذا لا ينتج شيئاً، فظهر أن الذي طنوه قاطعاً لا يفيد ظناً ضعيفاً فضلاً عن القطع.
قوله :" لاهيةً " يجوز أن تكون حالاً من فاعل " اسْتَمَعُوهُ " عند من يجيز تعدد الحال، فيكون الحالان مترادفين.
٤٤٥