اعلم أنه تعالى أجاب عن سؤالهم الأول وهو قولهم :﴿هَلْ هَـاذَآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ﴾ بقوله :﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ﴾ فبين أن هذه عادة الله في الرسل من قبل محمد - عليه السلام - ولم يمنع ذلك من كونهم رسلاً، وإذا صح ذلك فيهم فقد ظهر على محمد مثل آياتهم.
" فَاسْئَلُوا ااْ أَهْلَ الذِّكْرِ " يعني علماء أهل الكتاب حتى يعلموهم أن رسل الله الموحى إليهم كانوا بشراً، ولم يكونوا ملائكة، وإنام أحلهم على أولئك، لأنهم كانوا يتابعون المشركين في معاداة الرسول، وأمر المشركين بمُساءلة أهل الكتاب، لأنهم إلى تصديق من لم يؤمن بالنبي - ﷺ - أقرب منهم إلى تصديق من آمن قال تعالى :﴿وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ااْ أَذًى كَثِيراً﴾ [آل عمران : ١٨٦] فإن قيل : إذا لم يوثق باليهود والنصارى فكيف يجوز أن يأمرهم بأن يسألوهم عن الرسل ؟ فالجواب : إذا تواتر خبرهم وبلغ حدّ الضرورة جاز ذلك، لأنَّا نعلم بخير الكفار إذا تواتر كما نعلم بخبر المؤمنين.
وقال ابن زيد : أراد بأهل الذمر المؤمنين، وهو بعيد، لأنهم كانوا طاعنين في القرآن وفي الرسول.
فأما تعلق كثير من الفقهاء بهذه الآية في أن للقاضي أن يرجع إلى فتيا العلماء وفي أن للمجتهد أن يأخذ بقول مجتهد آخر، فبعيد، لأن هذه الآية خطاب مشافهة، وهي
٤٥٣
واردة في هذه الواقعة المخصوصة، ومتعلقة باليهود والنصارى على التعيين.
قوله :﴿إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ جواب الشرط محذوف لدلالة ما تقدم عليه، أي :" فَاسْأَلُوُهَم "، ومفعولا العلم يجوز أن يراد، أي : لا تعلمون أن ذلك كذلك ويجوز أن لا يراد، أي : إن كنتم من غير ذوي العلم.
قوله :﴿وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً﴾ أي ما جعلنا الرسل جسداً، ولم يقل : أجساداً، لأنه اسم جنس.
﴿لاَّ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ﴾ هذا رد لقولهم :﴿مَالِ هَـذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ﴾ [الفرقان : ٧] والمعنى : لم نجعل الرسل ملائكة بل جعلناهم بشراً يأكلون الطعام ﴿وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ﴾ في الدنيا : قوله :﴿لاَّ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ﴾ في هذه الجملة وجهان : أظهرهما : أنها في محل نصب نعتاً لـ " جسداً " و " جسداً " مفرد يراد به الجمع، وهو على حذف مضاف أي : ذوي أجساد غير آكلين الطعام، و " جعل " يجوز أن تكون بمعنى (صير) فتتعدى لاثنين ثانيهما " جسداً " ويجوز أن تكون بمعنى (خلق) و (أنشأ) فتتعدى لواحد فيكون " جسداً " حالاً بتأويله بمشتق، أي : متغذين، لأن الجسد لا بد له من الغذاء.
وقال أبو البقاء : و " لا يأكلون " حال أخرى، بعد " جسداً " إذا قلنا إن (جعل تتعدى لواحد).
وفيه نظر.
بل هو صفة لـ " جسداً " بالاعتبارين، لا يليق المعنى إلا به.
قوله :" صَدَقْنَاهُمْ الوَعدَ " صدق يتعدى لاثنين إلى ثانيهما بحرف الجر.
وقد يحذف تقول : صَدَقْتُكَ الحديث، وفي الحديث نحو أمر واستغفر وقد تقدم في
٤٥٤
" آل عمران ".
قال الزمخشري : هو مثل قوله :﴿وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً﴾ [الأعراف : ١٥٥] والأصل في الوعد، ومن قومه.
والمعنى " صدقناهم الوعد " الذي وعدناهم بإهلاك أعدائهم، ﴿فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَآءُ﴾ أي : أنجينا المؤمنين الذين صدقوا الرسل " وَأَهْلَكْنَا المُسْرَفِين " أي : المشركين المكذبين، وكل مشرك مسرف على نفسه.
قوله :﴿لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً﴾ يا معشر قريش " فِيِهِ ذِكْرِكُمْ " أي شرفكم، كما قال :﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ﴾ [الزخرف : ٤٤] وإنَّهُ شَرَفٌ لمن آمن به.
وقال مجاهد : فيه حديثكم.
وقال الحسن :" فِيهِ ذِكْرُكُمْ " أي ذكر ما تحتاجون إليه من أمور دينكم " أَفَلاَ تَعْقِلُونَ " وهذا كالحث على التدبر للقول لأنهم كانوا عقلاء، لأن التدبير من لوازم العقل، فمن لم يتدبر فكأنه خرج عن العقل.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٤٥٣
قوله :" وَكَمْ قَصَمْنَا " " كَمْ " في محل نصب مفعولاً مقدماً بـ " قَصَمْنَا " و " مِنْ قَرْيَةٍ " تمييز، والظاهر أن " كَمْ " هنا خبرية، لأنها تفيد التكثير.
والقصم : القطع وهو الكسر الذي يبين تلازم الأجزاء بخلاف الفصم.
٤٥٥


الصفحة التالية
Icon