قوله :" كَانَتْ ظَالِمَةٌ " في محل جر صفة لـ " قَرْيَةٍ "، ولا بد من مضاف محذوف قبل " قَرْيَةٍ " أي : وكم قصمنا من أهل قرية بدليل عود الضمير في قوله :" فَلَمَّا أَحَسُّوا " ولا يجوز أن يعود على قوله " قوماً " لأنه لم يذكر لهم ما يقتضي ذلك.
فصل لما حكى عنهم تلك الاعتراضات الساقطة، لكونها في مقابلة ما ثبت إعجازه، وهو القرآن ظهر لكل عاقل أن اعتراضهم كان لأجل حب الرياسة والدنيا.
والمراد بقوله :" قصمنا " أهلكنا.
قال ابن عباس : المراد منه القتل بالسيوف، والمراد بالقرية : حضور وسحول باليمن ينسب إليهما الثياب، وفي الحديث :" كفن رسول الله - ﷺ - في ثوبين سحولين "، وروي " حضورين " بعث الله إليهما نبياً فقتلوه فسلط الله عليهم بختنصر كما سلطه على أهل بيت المقدس فاستأصلهم.
وروي " أنه لما أخذتهم السيوف ناداه مناد من السماء يا لثارات الأنبياء " فندموا واعترفوا بالخطأ، و ﴿قَالُواْ يا وَيْلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾.
وقال الحسن : المراد عذب الاستئصال.
وهذا أقرب، أن إضافة ذلك إلى الله أقرب من إضافته إلى القائل، ثم بتقدير أن يحمل ذلك على عذاب القتل فما الدليل على الحصر في القريتين اللتين ذكرهما ابن عباس.
وقوله :" كَانَتْ ظَالِمَةٌ " أي كافرة، يعني أهلها " وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا " أي : أحدثنا بعد علاك أهلها " قَوْمَاً آخَرِينَ ".
﴿فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ﴾ أي : عذابنا بحاسة البصر ﴿إِذَا هُمْ مِّنْهَا يَرْكُضُونَ﴾ أي : يسرعون هاربين.
والركض ضرب الدابة بالرجل، يقال : ركض الدابة يركضها ركضاً، ومنه قوله تعالى :" ارْكُضْ بِرِجْلِكَ ".
فيجوز أن يركبوا دوابّهم فيركضوها هاربين منهزمين من قريتهم لما أدركتهم مقدمة العذاب.
ويجوز أن يشبهوا في سرعة عدوهم على أرجلهم بالراكبين الراكضين.
٤٥٦
قوله :" إِذَا هًمْ " :" إذَا " هذه فجائية، وتقدم الخلاف فيها.
و " هُمْ " مبتدأ، و " يَرْكُضُونَ " خبره.
وتقدم أول الكتاب أن أمثال هذه الآية دالة على أن " لمَّا " ليست ظرفية بل حرف وجوب لوجوب، لأن الظرف لا بد له من عامل، ولا عامل هنا، لأن ما بعد " إذا " لا يعمل فيما قبلها.
والجواب أنه عمل فيها معنى المفاجَأة المدلول عليه بـ " إِذَا ".
والضمير في " مِنْهَا " يعود على " قَرْيَةٍ "، ويجوز أن يعود على " بَْسَنَا " لأنه في معنى النقمة والبأساء، فأنث الضمير حملاً على المعنى.
و " مِنْ " على الأول لابتداء الغاية، وللتعليل على الثاني.
قوله :" لا تَرْكُضُوا " أي : قيل لهم : لا تركضوا، أي لا تهربوا.
قال الزمخشري : القول محذوف، فإن قلت : من القائل ؟ قلت : يحتمل أن يكون بعض الملائكة، أو من ثم من المؤمنين، أو يكون خلقاء بأن يقال لهم ذلك وإن لم يقل، أو بقوله رب العزة ويسمعه ملائكته لينفهم في دينهم.
أو يلهمهم ذلك فيحدثوا به نفوسهم.
٤٥٧
وقوله :﴿وَارْجِعُوا ااْ إِلَى مَآ أُتْرِفْتُمْ﴾ من العيش الرافه والحال الناعمة.
والإتراف انتظار النعمة، وهي الترفه.
وقوله :" لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونََ " تهكم بهم وتوبيخ.
قال ابن عباس : تسألون عن قتل نبيكم.
وقال غيره : هذا التهكم يحتمل وجوهاً : الأول : ارجعوا إلى نعمتكم ومساكنكم لعلكم تسألون عما جرى عليكم ونزل بأموالكم ومساكنكم، فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة.
الثاني : ارجعوا واجلسوا كما كنتم في مجالسكم حتى تسألكم عبيدكم ومن ينفذ فيه أمركم ونهيكم، ويقولوا لكم : بم تأمرون، وماذا ترسمون كعادة المخدومين.
الثالث : تسألكم الناس ما في أيديكم ويستشيرونكم في المهمات.
قوله :﴿فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ﴾ اسم " زالت " " تلك " و " دعواهم " الخبر هذا هو الصواب.
وقد قال الحوفي والزمخشري وأبو البقاء : يجوز العكس، وهو مردود بأنه إذا أخفي الإعراب مع استوائهما في المسوغ لكون كل منهما اسماً أو خبراً، وجب جعل المتقدم اسماً والمتأخر خبراً، وهو من باب ضرب موسى عيسى وتقدم إيضاح هذا في أول سورة الأعراف فليلتفت إليه.
و " تلك " إشارة إلى الجملة المقولة.
قال
٤٥٨


الصفحة التالية
Icon