الزمخشري :" تلك " إشارة إلى " يَا وَيْلَنَا " لإنها دعوى، كأنه قيل : فما زالت تلك الدعوى دعواهم، والدعوى بمعنى الدعوة، قال تعالى :﴿وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [يونس : ١٠].
وسميت دعوى، لأنهم كانوا دعوا بالويل فقالوا :" يا ويلنا ".
قال المفسرون : لم يزالون يكررون هذه الكلمة فلم ينفعهم ذلك كقوله :﴿فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا﴾ [غافر : ٨٥].
" حتى جعلناهم حصيدا " الحصيد : الزرع المحصود، أي جعلناهم مثل الحصيد، شبههم في استئصالهم به، كما تقول : جعلناهم رماداً أي : مثل الرماد قوله :" حَصِيداً " مفعول ثان، لأن الجعل هنا تصيير.
فإن قيل : كيف ينصب " جعل " ثلاثة مفاعيل ؟ فالجواب أن " حصيداً " و " خامدين " يجوز أن يكون من باب حلو حامض، كأنه قيل : جعلناهم جامعين بين الوصفين جميعاً.
ويجوز أن يكون " خامدين " حالاً من الضمير في " جَعَلْنَاهُمْ "، أو من الضمير المستكن في " حَصِيداً " فإنه في معنى محصود.
ويجوز أن يكون في باب ما تعدد فيه الخبر نحو :" زيد كاتب شاعر ".
وجوَّز أبو البقاء فيه أيضاً أن يكون صفة لـ " حصيدا "، وحصيد بمعنى محصود كما تقدم فلذلك لم يجمع.
وقال أبو البقاء : والتقدير : مثل حصيد فلذلك لم يجمع كما لم يجمع " مثل " المقدر انتهى.
وإذا كان بمعنى محصودين فلا حاجة، والمعنى : أنهم هلكوا بذلك العذاب حتى لم يبق حس ولا حركة، وجفوا كما يجف الحصيد وخمدوا كما تخمد النار.
٤٥٩
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٤٥٥
قوله تعالى :﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالأَرْضَ﴾ الآية.
اعلم أنه لما بين إهلاك القرية لأجل تكذيبهم أتبعه بما يدل على أنه فعل ذلك عدلاً منه، ومجازاة على ما فعلوا فقال :﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ﴾ أي : وما سوينا هذا السقف المرفوع، وهذا المهاد الموضوع وما بينهما من العجائب والغرائب كما سوى الجبابرة سقوفهم وفرشهم للعب واللهو، وإنما سويناهم لفوائد دينية ودنيوية.
أما الدينية فليتفكر المكلفون فيها على ما قال :﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [آل عمران : ١٩١].
وأما الدنيوية فلما يتعلق بها من المنافع التي لا تعد ولا تحصى، وهو كقوله :﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً﴾ [ص : ٢٧] وقوله :﴿مَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ﴾ [الدخان : ٣٩].
وقيل : وجه النظم أن الغر منه تقرير نبوة محمد - عليه السلام - والرد على منكريه، لأنه أظهر المعجز عليه، فإن كان محمد كاذباً كان إظهار المعجز عليه من باب اللعب، وذلك منفي عنه، وإن كان صادقاً فهو المطلوب وحينئذ يفسد كل ما ذكروه من المطاعن و " لاعبين " حال من فاعل " خلقنا ".
فصل قال القاضي عبد الجبار : دلَّت هذه الآية على أن اللعب ليس من قبله تعالى، إذ لو كان كذلك لكان لاعباً، فإن اللاعب في اللغة اسم لفاعل اللعب، فنفي الاسم الموضوع لفعل يقتضي نفي الفعل.
والجواب يبطل ذلك بمسألة الداعي، وقد تقدم.
قوله :﴿لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً﴾.
قال ابن عباس : في رواية عطاء : اللهو : المرأة، وهو قول الحسن وقتادة وقال في رواية الكلبي : اللهو : الولد بلغة اليمن، وهو قول السدي.
وهو في المرأة أظهر، لأن الوطأ يسمى لهواً في اللغة، والمرأة محل الوطأ.
٤٦٠
" لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ " أي : من عندنا من الحور العين لا من عندكم من أهل الأرض.
وقيل : معناه لو كان ذلك جائزاً في صفته لم يتخذه بحدث يظهر لهم ويستر ذلك حتى لا يطلع عليه.
وتأويل الآية : أن النصارى لما قالوا في المسيح وأمه ما قالوا رد الله عليهم بهذا، وقال :" لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ "، لأنكم تعلمون أن ولد الرجل وزوجته يكونان عنده لا عند غيره.
قوله :﴿إِن كُنَّا فَاعِلِينَ﴾ في " إِنْ " هذه وجهان : أحدهما : أنها نافية، أي : ما كنا فاعلين، قاله قتادة ومقاتل وابن جريج.
والثاني : أنها شرطية، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب " لو " عليه والتقدير : إن كنا فاعلين اتخذناه ولكنا لم نفعله، لأنه لا يليق بالربوبية.
قوله :﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ﴾.
" بَل " حرف إضراب عن اتخاذ اللهو واللعب وتنزيه لذاته كأنه قال : سبحاننا أن نتخذ اللهو واللعب بل من موجب حكمتنا أن نغلب اللعب بالجد وندحض الباطل بالحق.
والمعنى دع الذي قالوا فإنه كذب وباطل.
و " نقذف " نرمي ونسلط قال تعالى :﴿وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ دُحُوراً﴾ [الصافات : ٨، ٩] أي يرمون بالشهب.
" بالحق " بالإيمان، " على الباطل " على الكفر وقيل : الحق قول الله : إنه لا ولد له، والبطل قولهم : اتخذ الله ولداً.
قوله :" فَيَدْمَغُه " العامة على رفع الغين نسقاً على ما قبله.
وقرأ عيسى بن عمر بنصبها قال الزمخشري : وهو في ضعف قوله : ٣٧٠٥ - سَأَتْرُكُ مَنْزِلِي لِبَنِي تَمِيم