وسادسها : أن الموجودات ملكه، ومن تصرف في ملك نفسه لا يقال له : لم فعلت ذلك ؟ وسابعها : أن من قال لغيره : لم فعلت ذلك ؟ فهذا السؤال إنما يحسن حيث يكون للسائل على المسؤول حكم على فعله، وذلك في حق الله تعالى محال، فإنه لو فعل أي فعل شاء فالعبد كيف يمنعه عن ذلك بأن يهدده بالعقاب ؟ فذلك على الله محال، وإن هذه باستحقاق الذم والخروج عن الحكمة والاتصاف بالسفاهة على ما يقوله المعتزلة فذلك أيضاً محال، لأنه مستحق للمدح والاتصاف بصفات الحكمة والجلال.
فثبت بهذه الوجوه أنه لا يجوز أن يقال لله في أفعاله : لم فعلت ؟ وإنّ كل شيء صنعه لا علة لصنعه.
وأما المعتزلة فإنهم سلموا أنه يجوز أن يقال : الله عالم بقبح القبيح، وعلام بكونه غنياً عنها، ومن كان كذلك لم يجز للعبد أن يقول لله : لم فعلت هذا ؟ ثم قال تعالى :" وهُمْ يُسْأَلُونَ " وهذا يدل على كون المكلفين مسؤولين عن أفعالهم.
واعلم أن منكري التكليف احتجوا على قولهم بوجوه : أحدها : قالوا : التكليف إما أن يتوجه على العبد حال استواء داعيته إلى الفعل والترك، أو حال رجحان أحدهما على الآخر، والأول محال، لأن حال الاستواء يمنع الترجيح، وحال امتنع الترجيح يكون تكليفاً بالمحال.
والثاني محال، لأن حال الرجحان يكون الراجح واجب الوقوع، وإيقاع ما هو ممتنع الوقوع تكليف ما لا يطاق.
وثانيها : قالوا : كل ما علم الله وقوعه فهو واجب، فيكون التكليف به عبثاً، وكل ما علم الله عدمه كان ممتنع الوقوع، فيكوت التكليف به تكليفاً لا يطاق.
وثالثها : قالوا : سؤال العبد إما أن يكون لفائدة أو لا لفائدة، فإن كان لفائدة فإن عادت إلى العبد فهو محال، لأن سؤاله لما كان سبباً للعقاب لم يكن نفعاً عائداً إلى العبد بل ضرر عائد إليه.
وإن لم يكن في سؤاله فائدة كان عبثاً، وهو غير جائز على الحكيم، بل كان إضراراً وهو غير جائز على الرحيم.
والجواب من وجهين : الأول : أن غرضكم من إيراد هذه الشبه النافية للتكليف أن تلزمونا نفي التكليف فكأنكم كلفتمونا بنفي التكليف، وهذا متناقض.
٤٧٣
والثاني : أن مدار كلامكم في هذه الشبهات على حرف واحد، وهو أن التكاليف كلها تكليف (بما لا يطاق) فلا يجوز من الحكيم أن يوجهها على العباد، فيرجح حاصل هذه الشبهات إلى أنه يقال لله تعالى : لِمَ كلفت عبادك، إلا أنَّا قد بيَّنا أنه سبحانه ﴿لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ﴾، فظهر بهذا أن قوله :﴿لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ﴾ أصل لقوله :﴿وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ فتأمل هذه الدقائق العجيبة لتقف على طرف من أسرار علم القرآن.
فإن قيل :﴿وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ متأكد بقوله :﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الحجر : ٩٢] وبقوله :﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ﴾ [الصافات : ٢٤] إلا أَنَّهُ يناقضه قوله :﴿فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ﴾ [الرحمن : ٣٩].
فالجواب : أن يوم القيامة طويل وفيه مقامات، فيصرف كل واحد من السلب والإيجاب إلى مقام دفعاً للتناقض.
فصل قالت المعتزلة :(فيه وجوه : أحدها) : أنه تعالى لو كان هو الخالق للحسن والقبيح لوجب أن يسأل عما يفعل، بل كان يذم بما من حقه الذم، كما يحمد بما من حقه الحمد.
وثانيها : أنه يجب أن يسأل عن المأمور به إذ لا فاعل سواء.
وثالثها : أنه لا يجوز أن يسألوا عن علمهم إذ لا عمل لهم.
ورابعها : أن علمهم لا يمكنهم أن يعدلوا عنه من حيث إنه خلقه وأوجده فيهم.
وخامسها : أنه تعالى صرح في كثير من المواضع أنه يقبل حجة العباد لقوله :﴿رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء : ١٦٥].
وهذا يقضي أن لهم عليه حجة قبل بعثة الرسل، وقال :﴿وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا اا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً﴾ [طه : ١٣٤] ونظائر هذه الآيات كثيرة، وكلها تدل على ان حجة العبد متوجهة على الله تعالى.
والجواب هو المعارضة بمسألة الداعي ومسألة العلم ثم بالوجوه المتقدمة التي بينا فيها أنه يستحيل طلب عِلِّيَّة أفعال الله تعالى.
٤٧٤