الثالث : أنه أفعل من الإيتاء، كذا توهم وهو غلط.
قال ابن عطية : ولو كان آتينا : أعطينا لما تَعَدَّتْ بحرف جر، وَيُوهِنُ هذه لقراءة أنَّ إبدال الواو المفتوحة همزة ليس بمعروف، وإنما يُعْرَفُ ذلك في المضمومة والمكسورة يعني : أنه كان من حق هذا القارئ أن يقرأ " وَأَتَيْنا " مثل وأعطينا، لأنها من المواتاة على الصحيح، فأبدل هذا القارئ الواو المفتوحة همزة وهو قليل ومنه أحد وأناة.
قال أبو البقاء : ويُقْرَأُ بالمد بمعنى جَازَيْنَا بها، فهو يَقْرُبُ من معنى أعطينا، لأنَّ الجزاء إعطاء، وليس منقولاً من أتينا، لأن ذلك لم يُنْقَلْ عنهم.
وقرأ حُمَيْدُ " أثَبْنَا " من الثواب، والضمير في " بِهَا " عائد على المثقال وأنّث ضميره لإضافته لمؤنث، فهو كقوله :
٣٧٢٣ - كَمَا شَرِقَتْ صَدْرُ القَنَاةِ مِنَ الدَّمِ
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٥٠٨
في اكتسابه التأنيث بالإضافة.
فصل زعم الجبائي أنَّ من استحق مائة جزء من العقاب فأتى بطاعة يستحق بها خمسين جزءاً من الثواب فهذا الأقل ينحبط بالأكثر، فيبقى الأكثر كما كان.
وهذه الآية تبطل قوله، لأن الله تعالى تمدح بأنَّ اليسير من الطاعة لا يسقط ولو كان الأمر كما قال الجبائي لسقطت الطاعة من غير فائدة.
فإن قيل : الحبة أعظم من الخردلة فكيف قال :" حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ " ؟ فالوجه فيه أن تفرض الخردلة كالدينار ثم تعتبر الحبة من ذلك الدينار.
والغرض المبالغة في أنَّ شيئاً من الأعمال صغيراً كان أو كبيراً غير ضائع عند الله.
ثم قال :﴿وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾.
قال السّديّ : مُحْصِينَ.
والحَسبُ : معناه العد.
قال ابن عباس : عالمين
٥١٤
حافظين، لأنَّ من حسب شيئاً علمه وحفظه.
والغرض منه التحذير فإنَّ المحاسب إذا كان عالماً بحيث لا يمكن أن يفوته شيء، وكان في القدرة بحيث لا يعجز عن شيء فحقيق بالعاقل أن يكون شديد الخوف منه.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٥٠٨
قوله تعالى :﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ﴾ الآية.
لما أمر رسوله أن يقول ﴿إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ﴾ [الأنبياء : ٤٥] أتبعه بأنه عادة الله في الأنبياء قبله.
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ﴾ يعني : الكتاب المفرق بين الحق والباطل، وهو التوراة، وكان " ضِيَاءٌ " لغاية وضوحه يتوصل به إلى طرق الهدى في معرفة الشرائع، وكان " ذكرى " أي موعظة أو ذكر ما يحتاجون إليه في دينهم ومصالحهم.
وقال ابن زيد : الفرقان النصر على الأعداء كقوله تعالى :﴿وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ﴾ [الأنفال : ٤١] يعني : يوم بدر حين فرق بين الحق والباطل.
وهو مروي عن ابن عباس، ولأنه أدخل الواو في قوله " وَضِيَاءٌ " أي : آتينا موسى النصر والضياء، وهو التوراة، لأنَّ العطف يقتضي المغايرة.
وقيل : المراد بالفرقان : البرهان الذي فرق به بين الحق والباطل.
وقال الضحاك : الفرقان هو فلق البحر.
وقال محمد بن كعب : الفرقان الخروج عن الشبهات.
ومن قال المراد بالفرقان : التوراة قال : الواو في قوله :" وَضِيَاءٌ " تكون من عطف الصفات، والمراد به شيء واحد، أي : آتيناه الجامع بين هذه الأشياء.
وقيل : الواو زائدة.
قال أبو البقاء فـ " ضِيَاءٌ " حال على هذا.
وإنما خصص الذكر بالمتقين كما في قوله " هُدىً للمتّقين ".
قوله :" الَّذِينَ يَخْشَوْنَ " في محله ثلاثة أوجه :(البحر على النعت أو البدل أو البيان، والنصب والرفع على القطع).
وفي معنى " الغَيْب " وجوه :
٥١٥
الأول :" يَخْشَوْنَ " أي : يخافون ربهم ولم يروه فيأتمرون بأوامره، وينتهون عن نواهيه.
وثانيها : يخشون ربهم وهم غائبون عن الآخرة وأحكامها.
وثالثها : يخشون ربهم في الخلوات إذا غابوا عن الناس ﴿وَهُمْ مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ﴾ خائفون.
ثم قال : ولما أنزلت عليه القرآن المنزل عليك وهو معنى قوله :﴿وَهَـاذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ﴾ يعني : القرآن " ذِكْرٌ " لمن تذكر به " مُبَارَكٌ " يتبرك به، ويطلب منه الخير، " أَفَأنْتُمْ " يا أهل مكة " لَهُ مُنْكِرُونَ " جاحدون، استفهام إنكار وتوبيخ، والمعنى : لا إنكار في إنزاله وفي عجائب ما فيه.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٥١٥


الصفحة التالية
Icon