إن تركتم عبادته.
" أفٍّ لَكُمْ " أي : نتناً وقذراً لكم ﴿وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ تقدم الكلام على " أُفٍّ " في سورة سبحان.
قال الزمخشري :" أُفٍّ " صوت إذا صوت به دل على أنّ صاحبه متضجر، وأن إبراهيم - عليه السلام - أضجره ما رأى من ثباتهم على عبادتها بعد وضوح الحق وانقطاع عذرهم وزهوق الباطل فتأفف.
واللام في " لَكُم " وفي " لِمَا " لام التبيين، أي : لتأفيف لَكُمْ لا لغيركم، وهي نظير قوله :" هَيْتَ لَكَ ".
ثم قال :" أَفَلاَ تَعْقِلُونَ " أي : أليس لكم عقل تعقلون هذا وتعرفونه ؟
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٥٣٠
فلما ألزمهم الحجة وعجزوا الحجة عن الجواب ﴿قَالُواْ حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا ااْ آلِهَتَكُمْ﴾ ليس في القرآن من القائل ذلك، والمشهور انه نمروذ بن كنعان بن سنجاريب بن نمروذ بن مكوش بن حام بن نوح.
وقال مجاهد : سمعت ابن عمر يقول : إنما أشار بتحريق إبراهيم رجل من الأكراد من فارس.
ورى ابن جريج عن وهب عن شعيب قال : إن الذي قال حرقوه اسمه هرين فخسف الله به فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة.
٥٣٧
فصل قال مقاتل : لما اجتمع نمروذ وقومه لإحراق إبراهيم حبسوه في بيت وبنوا له بنياناً كالحظيرة، وذلك قوله :﴿قَالُواْ ابْنُواْ لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ﴾ [الصافات : ٩٧].
ثم جمعوا له الحطب الكثير، حتى إنَّ الرجل أو المرأة لو مرضت قالت : إن عافاني الله لأجمعن حطباً لإبراهيم.
وقيل : بنوا آتوناً بقرية يقال لها كوثى.
ثم جمعوا له أصلاب الحطب من أصناف الخشب مدة أربعين يوماً، وكانت المرأة تغزل وتشتري الحطب بغزلها، فتلقيه فيه احتساباً في دينها، فلما اشتعلت النار، واشتدت حتى إن كانت الطير لتمر به وهي في أقصى الجو فيحترق من شدة وهجها.
روي أنَّهم لم يعلموا كيف يلقوه فيها ؟ فجاء إبليس وعلمهم عمل المنجنيق فعملوه.
وقيل : صنعه لهم رجل من الأكراد يقال له : هيزن، وكان أول من صنع المنجنيق، فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة.
ثم عمدوا إلى إبراهيم - عليه السلام - فوضعوه فيه مقيداً مغلولاً، فصاحت السماء والأرض ومن فيها من الملائكة صيحة واحدة : أي ربنا ما في أرضك أحد يعبدك غير إبراهيم، وإنه يحرق فيك فأذن لنا في نصرته، فقال سبحانه :" إن استغاث به وأما وَليُّهُ فهلوا بيني وبينه، فإنه خليل ليس لي خليل غيره وأنا إلهه ليس له إله غيري ".
فلما أرادوا إلقاءه في النار أتاه خازن المياه فقال : إن أردت أخمدت النار.
وأتاه خازن الرياح فقال : إن شئت طيرت النار في الهواء.
فقال إبراهيم : لا حاجة لي إليكم، ثم رفع رأسه إلى السماء وقال : اللهم أنت الواحد في السماء وأنا الواحد في الأرض من يعبدك غيري حسبي الله ونعم الوكيل.
قال ابن عباس :﴿حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ [آل عمران : ١٧٣] قالها إبراهيم حين القي في النار، وقالها محمد حين قيل له :﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُواءٌ﴾ [آل عمران : ١٧٣، ١٧٤] فحين ألقي في النار قال :" لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين لك الحمد ولك الملك لا شريك
٥٣٨
لك ".
ثم رموه في المنجنيق إلى النار، فأتاه جبريل، فقال : يا إبراهيم الك حاجة ؟ قال : أما إليك فلا، قال : فاسأل ربك قال : حسبه من سؤالي علمه بحالي.
فقال الله تعالى :﴿يا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاَمَا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾.
قال كعب الأحبار جعل كل شيء يطفئ عنه النار إلا الوزغ فإنه كان ينفخ النار.
" وروت أم شريك أنَّ رسول الله - ﷺ - أمر بقتل الوزغ وقال :" كان ينفخ علىإبراهيم " وقال السُّدِّيّ : القائل ﴿كُونِي بَرْداً وَسَلاَمَا﴾ هو جبريل.
وقال ابن عباس في رواية مجاهد : لو لم يتبع بردها سلاماً لمات إبراهيم من بردها، قال : ولم يبق يومئذ نار إلا طفئت، ولو لم يقل " عَلَى إِبْرَاهِيم " بقيت ذات برد أبداً.
قال السدي : فأخذت الملائكة بضبعي إبراهيم وأقعدوه على الأرض فإذا عين ماء عذب وورد أحمر ونرجس، ولم تحرق النار منه لا وثاقه.
وقال المنهال بن عمرو : أخبرت أنّ إبراهيم - عليه السلام - لما ألقي في النار كان فيها إما أربعين يوماً أو خمسين يوماً، وقال : ما كنت أطيب عيشاً مني إذا كنت فيها.
قال ابن يسار : وبعث الله عز وجل ملك الظل في صورة إبراهيم فقعد إلى جنب إبراهيم يؤنسه، وأتى جبريل بقميص من حرير الجنة وَطِنْفسَة فألبسه القميص وأجلسه على الطنفسة وقعد معه يحدثه وقال : يا إبراهيم إنَّ ربك يقول : أما علمت أن النار لا تضر أحبابي.
ثم نظر نمروذ من صرح له وأشرف على إبراهيم فرآه جالساً في روضة ورأى الملك قاعداً إلى جنبه وما حوله نار تحرق، فناداه نمروذ : يا إبراهيم هل تستطيع أن تخرج منها ؟
٥٣٩


الصفحة التالية
Icon