ثم حقق ذلك بقوله ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ﴾ قرأ حمزة بضم الزاي، والباقون بفتحها بمعنى المزبور كالمحلوب والمركوب، يقال : زبرت الكتاب أي : كتبته.
والزُّبور بضم الزاي جمع زِبْرَة كقِشرة وقُشُور.
ومعنى القراءتين واحد، لأنّ الزبور هو الكتاب.
قال سعيد بن جبير ومجاهد والكلبي ومقاتل :" الزَّبُور " جميع الكتب المنزلة، و " الذِّكْر " أم الكتاب الذي عنده، والمعنى من بعد ما كتب ذكره في اللوح المحفوظ.
وقال ابن عباس والضحاك : الزبور : التوراة، واذلكر : الكتب المنزلة من بعد التوراة.
وقال قتادة والشعبي : الزبور والذكر : التوراة.
وقيل : الزبور : زبور داود، والذكر : القرآن، و " بَعْدِ " بمعنى قبل كقوله :﴿وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ﴾ [الكهف : ٧٩] أي : أمامهم.
٦١٨
﴿وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾ [النازعات : ٣٠] اي : قبله.
وقيل : الزبور : زبور داود، والذكر هو ما روي أنه - عليه السلام - قال :" كان الله ولم يكن معه شيء ثم خلق الذكر " قوله :﴿مِن بَعْدِ الذِّكْرِ﴾ يجوز أن يتعلق بنفس " الزَّبُور " لأنه بمعنى المزبور، أي : المكتوب، أي : المزبور من بعد.
ومفعول " كَتَبْنَا " " أنَّ " وما في حيزها، أي : كتبنا وراثة الصالحين للأرض، اي : حكمنا به قوله :" أنَّ الأَرْضَ " يعني أرض الجنة ﴿يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ قال مجاهد : يعني أمة محمد - ﷺ - ويدل عليه قوله تعالى :﴿وَقَالُواْ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ﴾ [الزمر : ٧٤] وقال ابن عباس : أراد أراضي الكفار يفتحها المسلمون، وهذا حكم من الله تعالى بإظهار الدين وإعزاز المسلمين.
وقيل : أراد الأرض المقدسة يرثها الصالحون لقوله تعالى :﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا﴾ [الأعراف : ١٣٧].
﴿إِنَّ فِي هَـاذَا﴾ أي : في هذا القرآن يعني ما فيه من الأخبار والوعد والوعيد والمواعظ البالغة " لَبَلاَغَاً " وصولاً إلى البغية، فمن اتبع القرآن وعمل به وصل إلى ما يرجو من الثواب.
وقيل :" لَبَلاَغَاً " أي : كفاية : والقرآن زاد الجنة كبلاغ المسافر.
﴿لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ﴾ أي : مؤمنين.
وقال ابن عباس : عالمين.
وقال كعب الأحبار : هم أمة محمد - ﷺ - أهل الصلوات الخمس وشهر رمضان.
وقوله :﴿وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً﴾ يجوز أن ينتصب " رَحْمَةً " مفعولاً له، أي : لأجل الرحمة، ويجوز أن ينتصب على الحال مبالغة في أن جعله نفس الرحمة، وإما على حذف مضاف أي : ذا رحمة، أو بمعنى راحم.
وفي الحديث :" يا أيها الناس إنما أنا رحمة مهداة ".
قوله :" لِلْعَالَمِينَ " يجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه صفة لـ " رَحْمَةً " أي : كائنة
٦١٩
للعالمين.
ويجوز أن يتعلق بـ " أَرْسَلْنَاكَ " عند مَنْ يرى تعلق ما بعد قبلها جائز، أو بمحذوف عند مَنْ لا يرى ذلك.
هذا إذا لم يفرغ الفعل لما بعدها أما إذا فرغ فيجوز نحو : ما مررت إلا بزيد، كذا قاله أبو حيان هنا.
وفيه نظر من حيث إن هذا أيضاً مفرغ، لأنّ المفرغ عبارة عما افتقر ما بعد إلا لما قبلها على جهة المعمولية له.
فصل قال ابن عباس : قوله :" رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ " عام في حق من آمن ومن لم يؤمن.
اعلم أنه - عليه لسلام - كان رحمة في الدين والدنيا، أما في الدين فلأنه - عليه السلام - بعث والناس في جاهلية وضلال، وأهل الكتابين كانوا في حيرة في أمر دينهم لطول مدّتهم وانقطاع تواترهم ووقوع الاختلاف في كتبهم، فبعث الله محمداً حين لم يكن لطالب الحق سبيل إلى الفوز والثواب، فدعاهم إلى الحق وبين لهم سبيل الصواب وشرع لهم الأحكام، وميز الحلال والحرام، فمن كانت همته طلب الحق فلا يركن إلى التقليد ولا إلى العناد والاستكبار، قال الله تعالى :﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ﴾ [فصلت : ٤٤] إلى قوله :﴿وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى﴾ [فصلت : ٤٤] وأما في الدنيا فلأنهم تخلصوا بسببه من الذل والقتل.
فإن
٦٢٠