قيل : كيف كان رحمة وقد جاء بالسيف واستباحة المال ؟ فالجواب من وجوه : الأول : إنما جاء بالسيف لمن أنكر وعاند ولم يتفكر ولم يتدبر، ومن أوصاف الله الرحمن الرحيم، وهو منتقم من العصاة.
وقال :﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً مُّبَارَكاً﴾ [ق : ٩] ثم قد يكون سبباً للفساد.
الثاني : أنّ كل نبي من الأنبياء قبله إذا كذبه قومه أهلك الله المكذبين بالخسف والمسخ والغرق، وأنه تعالى أخر عذاب من كذب رسولنا إلى الموت أو إلى القيامة قال الله تعالى :﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ﴾ [الأنفال : ٣٣] ولا يقال : أليس أنه قال :﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ﴾ [التوبة : ١٤].
وقال :﴿لِّيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ﴾ [الأحزاب : ٧٣] لأنا نقول تخصيص العام لا يقدح فيه.
الثالث : أنه - عليه السلام - كان في نهاية حسن الخلق قال تعالى :﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم : ٤] " وقيل له - عليه السلام - : ادع على المشركين.
فقال :" إنما بعثت رحمة ولم أبعث عذاباً " " وقال في رواية حذيفة :" إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أغضب كما يغضب البشر، فأيما رجل سببته أو لعنته فاجعلها اللهم عليه صلاة إلى يوم القيامة ".
الرابع : قال عبد الرحمن بن يزيد :﴿إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ يعني المؤمنين خاصة.
فصل قالت المعتزلة : لو كان تعالى أراد من الكافر الكفر ولم يرد منه القبول من الرسول، بل ما أراد منهم إلا الرد عليه، وخلق ذلك فيهم، ولم يخلقهم إلا لذلك كما يقول أهل
٦٢١
السنة لوجب أن يكون إرساله نقمة وعذاباً عليهم لا رحمة، وهو خلاف هذا النص، ولا يقال : إن رسالته رحمة للكفار من حيث لم يجعل عذابهم في الدنيا كما عجل عذاب سائر الأمم، لأنا نقول : إنّ كونه رحمة للجميع على حد واحد، وما ذكرتموه في الكفار فهو حاصل للمؤمنين، وأيضاً فإن الذي ذكروه من نعم الدنيا كانت حاصلة للكفار قبل بعثته - عليه السلام - لحصولها بعده، بل كانت نعمهم في الدنيا قب بعثته كحصولها بعده وأعظم، لأن في بعثته نزل بهم الغم والخوف، ثم أمر الجهاد الذي فيه أكبر همّ، فلا يجوز أن يكون هذا هو المراد.
والجواب أنْ نقول لما علم الله أن أبا لهب لم يؤمن البتة، وأخبر عنه أنه لا يؤمن كان أمره بالإيمان أمراً يقلب علمه جهلاً وخبره الصدق كذباً، وذلك محال، فكان قد أمره بالمحال، وإن كانت البعثة مع هذا القول رحمة، فلم لا يجوز ان يقال البعثة رحمة مع أنه خلق الكفر في الكافر ؟ ولأنّ قدرة الكافر إن لم تصلح إلا للكفر فقط فالسؤال عليهم لازمن وإن كانت صالحة للضدين توقف الترجيح على مرجح من قبل الله تعالى قطعاً للتسلسل.
وحينئذ يعود الإلزام، ثم نقول : لم لا يجوز أن يكون رحمة للكفار تأخير عذاب الاستئصال عنهم ؟ وقولهم أولاً : لما كان رحمة للجميع على حد واحد وجب أن يكون رحمة للكفار من الوجه الذي كان رحمة للمؤمنين.
فالجواب : ليس في الآية أنه - عليه السلام - رحمة للكل باعتبار واحد أو باعتبارين مختلفين، فدعواكم بكون الوجه واحداً تحكم.
وقولهم نعم الدنيا كانت حاصلة للكفار من قبل.
فالجواب : نعم، ولكنه - عليه السلام - لكونه رحمة للمؤمنين لما بُعِثَ حصل الخوف للكفار من نزول العذاب، فلما اندفع ذلك عنهم بسبب حضوره كان ذلك رحمة في حق الكفار.
فصل تمسكوا بهذه الآية في أنه أفضل من الملائكة، لأنّ الملائكة من العالمين، فوجب أن يكون أفضل منهم.
وأجيب بأنه معارض بقوله تعالى في حق الملائكة ﴿وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ﴾ [غافر : ٧] وذلك رحمة منهم في حق المؤمنين، والرسول - عليه السلام - داخل
٦٢٢
في المؤمنين، وكذا قوله تعالى :﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ﴾ [الأحزاب : ٥٦].
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٦١٢