والبدلية من قوله " انقلب " كما أبدل المضارع من مثله في قوله ﴿يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ﴾ [الفرقان : ٦٨ - ٦٩].
وقرأ مجاهد والأعرج وابن محيصن والجحدري في آخرين " خَاسِر " بصيغة اسم الفاعل منصوب على الحال، وهو توكيد كون الماضي في قراءة العامة حالاً وقرئ برفعه، وفيه وجهان : أحدهما : أن يكون فاعلاً بـ " انقلب "، ويكون من وضع الظاهر موضع المضمر، أي : انقلب خاسر الدنيا والآخرة، والأصل : انقلب هو.
الثاني : أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هو خاسر.
وهذه القراءة تؤيد الاستئناف في قراءة المضي على التخريج الثاني.
وحق من قرأ " خاسر " رفعاً ونصباً أن يجر " الآخرة " لعطفها على " الدنيا " المجرورة بالإضافة.
ويجوز أن يبقى النصب فيها، إذ يجوز أن تكون الدنيا منصوبة، وإنما حذف التنوين من " خاسر " لالتقاء الساكنين نحو قوله :
٣٧٥٠ - وَلاَ ذَاكِرَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلا
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٩
فصل معنى خسرانه الدنيا هو أن يخسر العز والكرامة وإصابة الغنيمة وأهلية الشهادة والإمامة والقضاء، ولا يبقى ماله ودمه مصوناً، وأما خسران الآخرة فيفوته الثواب
٣٢
الدائم، ويحصل له العقاب الدائم، و ﴿ذالِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾.
قوله :﴿يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُ﴾ إن عصاه ولم يعبده، ﴿وَمَا لاَ يَنفَعُهُ﴾ إن أطاعه وعبده، و ﴿ذالِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ﴾ عن الحق والرشد وهذه الآية تدل على أن الآية الأولى لم ترد في اليهود ؛ لأنهم ليس ممن يدعو من دون الله الأصنام.
والأقرب أنها واردة في المشركين الذين انقطعوا إلى الرسول على وجه النفاق.
قوله :﴿يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ﴾.
فيه عشرة أوجه، وذلك أنه إما أن يجعل " يَدْعُو " متسلطاً على الجملة من قوله :﴿لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ﴾ أو لا، فإن جعلناه متسلطاً عليها كان فيه سبعة أوجه : الأول : أنّ " يَدْعُو " بمعنى يقول، واللام للابتداء و " من " موصولة في محل رفع بالابتداء، و " ضَرُّه " مبتدأ ثان، و " أَقْرَب " خبره، وهذه الجملة صلة للموصول، وخبر الموصول محذوف تقديره : يقول للذي ضره أقرب من نفعه : إله، أو إلهي، ونحو ذلك، والجملة كلها في محل نصب بـ " يَدْعُو " لأنه بمعنى يقول، فهي محكية به.
وهذا قول أبي الحسن وعلى (هذا فيكون قوله :" لَبِئْسَ المَوْلَى " مستأنفاً ليس داخلاً في المحكي قبله، لأن الكفار لا يقولون في أصنامهم ذلك).
(ورد بعضهم هذا الوجه بأنه فاسد المعنى) إذ الكافر لا يعتقد في الأصنام أنَّ ضرّها أقرب من نفعها البتة.
الثاني : أنَّ " يَدْعُو " مشبه بأفعال القلوب، لأن الدعاء لا يصدر إلا عن اعتقاده وأفعال القلوب تعلق فـ " يَدْعُو " معلق أيضاً باللام، و " لَمَنْ " مبتدأ موصول، والجملة بعدة صلة، وخبره محذوف على ما مر في الوجه قبله، والجملة في محل نصب كما يكون كذلك بعد أفعال القلوب.
الثالث : أن يضمن " يَدْعُو " معنى يزعم، فتعلق كما تعلق، والمعنى.
والكلام فيه كالكلام في الوجه الذي قبله.
٣٣
الرابع : أنَّ الأفعال كلها يجوز أن تعلق قلبية كانت أو غيرها، فاللام معلقة لـ " يَدْعُو " وهو مذهب يونس، فالجملة بعده والكلام فيها كما تقدم.
الخامس : أن " يَدْعُو " بمعنى يسمي، فتكون اللام مزيدة في المفعول الأول، وهو الموصول وصلته، ويكون المفعول الثاني محذوفاً تقديره : يسمي الذي ضره أقرب من نفعه إلهاً ومعبوداً ونحو ذلك.
السادس : أن اللام مزالة من موضعها، والأصل : يدعو من لضره أقرب، فقدمت من تأخر.
وهذا قول الفراء.
ورد هذا بأن ما في صلة الموصول لا يتقدم على الموصول.
السابع : أن اللازم زائدة في المفعول به وهو " من " التقدير : يدعو من ضره أقرب، فـ " من " موصولة والجملة بعدها صلتها، والموصول هو المفعول بـ " يدعو " زيدت فيه اللام كزيادتها في قوله :" رَدِفَ لَكُمْ " في أحد القولين ورد هذا بأن زيادة اللام إنما تكون إذا كان العامل فرعاً أو تقدم المفعول.
وقرأ عبد الله " يَدْعُو مَنْ ضَرُّهُ " بغير لام الابتداء، وهي مؤيدة لهذا الوجه.
وإن لم نجعله متسلطاً على الجملة بعده كان فيه ثلاثة أوجه : أظهرها : أن " يَدْعُو " الثاني توكيد لـ " يدعو " الأول فلا معمول له، كأنه قيل :(يدعو يدعو) من دون الله الذي لا يضره ولا ينفعه، فعلى هذا تكون الجملة من قوله ﴿ذلك هو الضلال﴾ معترضة بين المؤكد والمؤكد، لأن فيها تشديداً وتأكيداً، ويكون
٣٤