قال أبو حيان : وظاهر هذا أنه شبه البيت بالآية، وكذلك قرنه الزجاج بالآية، ولا يتعين أن يكون البيت كالآية، لأن البيت يحتمل أن يكون (إن الخليفة) خبره (به ترجى الخواتيم) ويكون (إنَّ اللَّهَ سَرْبَلَهُ) جملة اعتراض بين اسم (إنَّ) وخبرها بخلاف الآية فإنه يتعين قوله :﴿إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ﴾ وحسن دخول " إن " على الجملة الواقعة خبراً لطول الفصل بينهما بالمعاطيف.
قال شهاب الدين : قوله : فإنه يتعين قوله :﴿إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ﴾ يعني أن يكون خبراً.
ليس كذلك، لأن الآية محتملة لوجهين آخرين ذكرهما الناس :
٤١
الأول : أن يكون الخبر محذوفاً تقديره : يفترقون يوم القيامة ونحوه، والمذكور تفسير له كذا ذكره أبو البقاء.
والثاني : أن " إن " الثانية تكرير للأولى على سبيل التوكيد، وهذا ماش على القاعدة وهو أن الحرف إذا كرر توكيداً أعيد معه ما اتصل به أو ضمير ما اتصل به، وهذا قد أعيد معه ما اتصل به أولاً، وهي الجلالة المعظمة فلم يتعين أن يكون قوله ﴿إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ﴾ خبراً لـ " إنَّ " الأولى كما ذكر.
واختلف العلماء في المجوس، فقيل : قوم يعبدون النار، وقيل : الشمس والقمر وقيل : اعتزلوا النصارى ولبسوا المسوح، وقيل : أخذوا من دين النصارى شيئاً ومن دين اليهود شيئاً، وهم القائلون بأن للعالم أصلان، نور وظلمة، وقيل هم قوم يستعملون النجاسات، والأصل : نجوس - بالنون - فأبدلت ميماً.
ومعنى ﴿يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ﴾ أي : يحكم بينهم، ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ أي : عالم بما يستحقه كل منهم، فلا يجري في ذلك الفصل ظلم ولا حيف.
قوله تعالى :﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ﴾ الآية.
قيل المراد بهذه الرؤية العلم، أي : ألم تعلم، وقيل : ألم تر بقلبك.
والمراد بالسجود : قال الزجاج : أنها مطيعة لله تعالى كقوله تعالى للسماء والارض ﴿ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ﴾ [فصلت : ١١]، ﴿أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ [يس : ٨٢] ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ [البقرة : ٧٤]، ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ
٤٢
بِحَمْدَهِ﴾
[الإسراء : ٤٤]، ﴿وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ﴾ [الأنبياء : ٧٩].
والمعنى أن هذه الأجسام لما كانت قابلة لجميع ما يحدثه الله تعالى فيها من غير امتناع أشبهت الطاعة والانقياد وهو السجود.
فإن قيل : هذا التأويل يبطله قوله تعالى ﴿وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ﴾، فإن السجود بالمعنى المذكور عام في كل الناس، فإسناده إلى كثير منهم يكون تخصيصاً من غير فائدة.
فالجواب من وجوه : الأول : أن السجود بالمعنى المذكور وإن كان عاماً في حق الكل إلا أن بعضهم تكبر وترك السجود في الظاهر، فهذا الشخص، وإن كان ساجداً بذاته لا يكون ساجداً بظاهره، وأما المؤمن فإن ساجد بذاته وبظاهره، فلأجل هذا الفرق حصل التخصيص بالذكر.
وثانيها : أن نقطع قوله :﴿وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ﴾ عما قبله، ثم فيه ثلاثة أوجه : الأول : أن تقدير الآية : ولله يسجد من في السموات ومن في الأرض ويسجد له كثير من الناس فيكون السجود الأول بمعنى الانقياد، والثاني بمعنى العبادة، وإنما فعلنا ذلك لقيام الدلالة على أنه لا يجوز استعمال اللفظ المشترك في معنييه جميعاً.
الثاني : أن يكون قوله :﴿وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ﴾ مبتدأ وخبره محذوف وهو مثاب، لأن خبر مقابله يدل عليه وهو قوله :﴿حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ﴾.
والثالث : أن يبالغ في تكثير الحقوق بالعذاب، فيعطف " كثير " على كثير ثم يخبر عنهم بحق عليهم العذاب.
وثالثها : أن من يجوز استعمال اللفظ المشترك في مفهومية جميعاً يقول : المراد بالسجود في حق الأحياء العقلاء العبادة، وفي حق الجمادات الانقياء (ومن ينكر ذلك فيقول : إن الله تكلم بهذه اللفظة مرتين، فعنى بها في حق العقلاء الطاعة، وفي حق الجمادات الانقياد) فإن قيل : قوله :﴿وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [الرعد : ١٥] عام فيدخل فيه الناس، فلم قال ﴿وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ﴾ مرة أخرى ؟ فالجواب : لو اقتصر على ما تقدم لأوهم أن كل الناس يسجدون كما أن كل الملائكة يسجدون فبين أن كثيراً منهم يسجد طوعاً دون كثير منهم فإنه يمتنع من ذلك، وهم الذين حق عليهم العذاب وقال القفال : السجود هاهنا هو الخضوع والتذلل،
٤٣


الصفحة التالية
Icon