والرفع بإضمار مبتدأ.
والجعل يجوز أن يتعدى لاثنين بمعنى صيّر، وأن يتعدى لواحد.
والعامة على رفع " سواء ".
وقرأ حفص عن عاصم بالنصب هنا، وفي الجاثية " سَوَاءٌ مَحْيَاهُمْ " وافقه على الذي في الجاثية الأخوان وسيأتي توجيهه.
فأما على قراءة الرفع، فإِن قلنا : إنَّ " جَعَلَ " بمعنى (صير) كان في المفعول الثاني ثلاثة أوجه : أظهرها : أن الجملة من قوله :﴿سَوَآءً الْعَاكِفُ فِيهِ﴾ هي المفعول الثاني، ثم الأحسن في رفع " سَوَاءٌ " أن يكون خبراً مقدماً، و " العاكف "، والبادي مبتدأ مؤخر، وإنما وَحَّد الخبر وإن كان المبتدأ اثنين، لأنَّ " سَواءٌ " في الأصل مصدر وصف به، وقد تقدم أول البقرة.
وأجاز بعضهم أن يكون " سَوَاءٌ " مبتدأ، وما بعده الخبر، وفيه ضعف أو منع من حيث الابتداء بالنكرة من غير مسوّغ، ولأنه متى اجتمع معرفة ونكرة جعلت المعرفة المبتدأ.
وعلى هذا الوجه أعني كون الجملة مفعولاً ثانياً فقوله :" للنَّاس " يجوز فيه وجهان : أحدهما : أن يتعلق بالجعل، أي : جعلناه لأجل الناس كذا.
والثاني : أن يتعلق بمحذوف على أنه حالٌ من مفعول " جَعَلْنَاهُ "، ولم يذكر أبو البقاء فيه على هذا الوجه غير ذلك، وليس معناه متضحاً.
الوجه الثاني : أنَّ " لِلنَّاسِ " هو المفعول الثاني، والجملة من قوله :" سَوَاءٌ العَاكِفُ " في محل نصب على الحال، إما من الموصول وإما من عائده وبهذا الوجه بدأ أبو البقاء، وفيه نظر ؛ لأنه جعل هذه الجملة التي هي محطّ الفائدة فضلة.
٥٨
الوجه الثالث : أن المفعول الثاني محذوف.
قال ابن عطية : المعنى الذي جعلناه للناس قبلة ومتعبداً.
فتقدير ابن عطية هذا مرشد لهذا الوجه.
إلا أن أبا حيان قال : ولا يحتاج إلى هذا التقدير إلا إن كان أراد تفسير المعنى لا الإعراب فيسوغ ؛ لأن الجملة في موضع المفعول الثاني، فلا يحتاج إلى هذا التقدير وإن جعلناها متعدية لواحد كان قوله :" لِلنَّاسِ " متعلقاً بالجعل على الغلبة وجوَّز فيه أبو البقاء وجهين آخرين : أحدهما : أنه حال من مفعول " جَعَلْنَاهُ ".
والثاني : أنه مفعول تعدى إليه بحرف الجر.
وهذا الثاني لا يتعقل كيف يكون " لِلنَّاسِ " مفعولاً عدي إليه الفعل بالحرف هذا ما لا يعقل، فإن أراد أنه مفعول من أجله فهي عبارة بعيدة من عبارة النحاة.
وأما على قراءة حفص فإن قلنا :" جَعَلَ " يتعدى لاثنين كان " سواء " مفعولاً ثانياً.
وإن قلنا : يتعدى لواحد كان حالاً من هاء " جَعَلْنَاهُ " وعلى التقديرين فـ " العَاكِفُ " مرفوع به على الفاعلية ؛ لأنه مصدر وصف به، فهو في قوة اسم الفاعل المشتق، تقديره : جعلناه مستوياً فيه العاكف، ويدل عليه قولهم : مَرَرْتُ بِرَجُلٍ سَوَاءٍ هُوَ وَالعَدَمُ، فهو تأكيد للضمير المستتر فيه، والعدم نسق على الضمير المستتر ؛ ولذلك ارتفع، ويروى : سَوَاءٍ وَالعَدَمُ ؛ بدون تأكيد وهو شاذ وقرأ الأعمش وجماعة " سَوَاء " نصباً " العَاكِف " جرًّا، وفيه وجهان : أحدهما : أنه بدل من الناس بدل تفصيل.
٥٩
والثاني : أنه عطف بيان، فهذا أراد ابن عطية بقوله : عطفاً على الناس.
ويمتنع في هذه القراءة رفع " سَوَاءٌ " لفساده صناعة ومعنى، ولذلك قال أبو البقاء : و " سَوَاء " على هذا نصب لا غير.
وأثبت ابن كثير ياء " وَالبَادِي " وقفاً ووصلاً.
وأثبتها أبو عمرو وورش وصلاً وحذفاها وقفاً.
وحذفها الباقون وصلاً ووقفاً، وهي محذوفة في الإمام.
فصل معنى الكلام : ويصدون عن المسجد الحرام الذي جعلناه للناس قبلة لصلاتهم ومنسكاً ومتعبداً كما قال :" وُضِعَ لِلنَّاسِ " وتقدم الكلام على معنى " سَوَاء " باختلاف القراءة.
وأراد بـ " العَاكِف " المقيم فيه، و " البَادِي " الطارئ من البدو، وهو النازع إليه من غربته.
وقال بعضهم : يدخل في " العَاكِف " الغريب إذا جاور ولزمه كالبعيد وإن لم يكن من أهله.
واختلفوا في معنى " سَوَاء " فقال ابن عباس في بعض الروايات : إنهما يستويان في سكنى مكة والنزول بها، فليس أحدهما أحق بالنزول الذي يكون فيه من الآخر إلا أن يكون أحدهما سبق إلى المنزل، وهو قول قتادة وسعيد بن جبير، ومن مذهب هؤلاء تحريم كراء دور مكة وبيعها، واستدلوا بالآية والخبر أما الآية فهذه، قالوا : إن أرض مكة لا تملك، فإنها لو ملكت لم يستو العاكف فيها والباد، فلما استويا ثبت أن سبيلها سبيل المساجد.
وأما الخبر فقوله عليه السلام :" مكة مناخ لمن سبق إليه "
٦٠