أيها الناس ألا إن ربكم قد بنى بيتاً، وقد كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق فأجيبوا ربكم، فأجابه كل من يحج من أصلاب الآباء وأرحام الأمّهات لبيك اللهم لبيك.
قال ابن عباس : فأول من أجابه أهلُ اليَمَن فهم أكثر الناس حجاً.
وقال مجاهد : من أجاب مرّة حجّ مرّة ومن أجاب مرتين أو أكثر فيحج مرتين أو أكثر بذلك المقدار.
قال ابن عباس : لما أمر الله إبراهيم بالأذان تواضعت له الجبال وخفضت وارتفعت له القرى.
وقال الحسن وأكثر المعتزلة : إنّ المأمور بالأذان هو محمد - عليه السلام - واحتجوا بأن ما جاء في القرآن وأمكن حَمْله على أن محمداً هو المخاطب فهو أولى وقد بينا أن قوله :" وَإِذْ بَوَّأنَا "، أي : واذكر يا محمد إذ بوأنا، فهو في حكم المذكور، فلما قال :" وَأَذِّنْ " فإليه يرجع الخطاب.
قال الجبائي : أمر محمداً - ﷺ - أن يفعل ذلك في حجة الوداع.
قالوا : إنه ابتداء فرض الحج من الله تعالى للرسول، وفي قوله :" يَأْتُوكَ " دلالة على أن المراد أن يحج فيقتدى به.
وروى أبو هريرة قال : قال رسول الله - ﷺ - " إِنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْكُم الحجَّ فحُجُّوا ".
قوله :" رِجَالاً " نصب على الحال، وهو جمع راجل نحو : صاحب وصِحَاب، وتاجر وتجار، وقائم وقيام.
وقرأ عكرمة والحسن وأبو مجلز " رُجَّالاً " بضم الراء وتشديد الجيم.
وروي عنهم تخفيفها، وافقهم ابن أبي إسحاق على التخفيف، وجعفر بن محمد ومجاهد على التشديد، ورويت عن ابن عباس أيضاً.
فالمخفف اسم جمع كظؤار، والمشدد جمع تكسير كصائم وصوام.
وروي عن عكرمة أيضاً " رُجَالَى "
٧١
كنُعَامى بألف التأنيث.
وكذلك عن ابن عباس وعطاء إلا أنهما شددا الجيم.
قوله :﴿وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ﴾ نسق على " رجالاً "، فيكون حالاً أي : مشاة وركباناً.
والضمور : الهزال، ضَمَر يضْمُر ضُمُوراً، والمعنى أن الناقة صارت ضامرة لطول سفرها.
قوله :" يأتين ".
النون ضمير " كُلِّ ضَامِر " حملاً على المعنى، إذ المعنى : على ضوامر، فـ " يَأْتِينَ " صفة لـ " ضامر "، وأتى بضمير الجمع حَملاً على المعنى، أي جماعة الإبل، وقد تقدم في أول الكتاب أن " كل إذا أضيفت إلى نكرة لم يراع معناها إلا في قليل، كقوله : ٣٧٥٩ - جَادَتْ عَلَيْهِ كُلُّ عَيْنٍ ثَرَّةٍ
فَتَرَكْتُ كُلَّ حَديقَة كَالدِّرْهَمِ
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٦٤
وهذه الآية ترده، فإن " كلّ " فيها مضافة لنكرة وقد روعي معناها، وكان بعضهم أجاب عن بيت زهير بأنه إنما جاز ذلك ؛ لأنه في جملتين، قيل له : فهذه الآية جملة واحدة، لأن " يأتين " صفة لـ " ضَامِر ".
وجوَّز أبو حيان أن يكون الضمير يشمل " رجالاً " و " كل ضامر " قال : على معنى الجماعات والرفاق.
قال شهاب الدين : فعلى هذا
٧٢
يجوز أن يقال عنده : الرجال يأتين، ولا ينفعه كونه اجتمع مع الرجال هنا " كل ضامر "، فيقال جاز ذلك لما اجتمع معه ما يجوز فيه ذلك إذ يلزم منه تغليب غير العاقل على العاقل وهو ممنوع.
وقال البغوي : وإنما جمع " يَأْتِين " لمكان " كُلّ " وأراد النوق.
وقرأ ابن مسعود والضحاك وابن أبي عبلة " يَأْتون " تغليباً للعقلاء الذكور.
وعلى هذا فيحتمل أن يكون قوله :﴿على كل ضامر﴾ حالاً أيضاً، ويكون " يأتون " مستأنفاً متعلق به من كل فج أي يأتونك رجالاً وركباناً ثم قال :﴿يأتون من كل فج﴾ وأن يتعلق بقوله " يأتون " أي يأتون على كل ضامر من كل فجّ، و " يأتون " مستأنف أيضاً، فلا يجوز أن يكون صفة لـ " رجالاً " ولـ " ضامر " لاختلاف الموصوف في الإعراب ؛ لأن أحدهما منصوب والآخر مجرور، ولو قلت : رأيت زيداً ومررت بعمرو العاقلين.
على النعت لم يجز بل على القطع.
وقد جوَّز ذلك الزمخشري فقال : وقرئ " يَأْتُون " صفة للرجال والركبان وهو مردود بما ذكرنا.
والفج : الطريق بين الجبلين، ثم يستعمل في سائر الطرق اتساعاً.
والعميق : البعيد سفلاً، يقال : بئر عميقة معيقة، فيجوز أن يكون مقلوباً إلا أنه أقل من الأول، قال : ٣٧٦٠ - إِذَا الخَيْلُ جَاءَتْ مِنْ فِجَاجٍ عَمِيقَةٍ
يَمُدُّ بِهَا فِي السَّيْرِ أَشْعَثُ شَاحِبُ
وقرأ ابن مسعود :" مَعِيقٌ " ويقال : عمق وعمق بكسر العين وضمها عمقاً بفتح الفاء قال الليث : عميق (ومعيق، والعميق في الطريق أكثر.
وقال الفراء : عميق لغة الحجاز) ومعيق لغة تميم وأعمقت البئر وأمعقتها وعَمُقَت ومَعُقَت عماقة ومعاقة وإعماقاً وإمعاقاً قال رؤبة :
٧٣
٣٧٦١ - وَقَاتِمِ الأَعْمَاقِ خَاوِي المُخْتَرقْ