وقوله :" ثُمَّ قُتِلُوا " وقوله :" مُدْخَلاً " تقدم الخلاف في القراءة بهما في آل عمران وفي النساء.
فصل لما ذكر أن المُلْكَ له يوم القيامة، وأنه يَحكم بينهم، ويُدخل المؤمنين الجنات أتبعه بذكر الوعد الكريم للمهاجرين، وأفردهم بالذكر تفخيماً لشأنهم فقال :" وَالَّذِينَ هَاجَرُوا " فارقوا أوطانهم وعشائرهم في طاعة الله، وطلب رضاه ﴿ثُمَّ قُتِلُوا ااْ أَوْ مَاتُواْ﴾ وهم كذلك قال مجاهد : نزلت في طوائف خرجوا من مكة إلى المدينة للهجرة فتبعهم المشركون فقاتلوهم وظاهر الآية العموم.
ثم قال :﴿لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً﴾ والرزق الحسن هو الذي لا ينقطع أبداً وهو نعيم الجنة.
وقال الأصم : إنه العلم والفهم لقول شعيب - عليه السلام - ﴿وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً﴾ [هود : ٨٨].
(وقال الكلبي :" رِزْقاً حَسَناً " ) أي حلالاً وهو الغنيمة.
وهذان الوجهان ضعيفان لأنه تعالى جعله جزاء على هجرتهم في سبيل الله بعد القتل والموت، وبعدهما لا يكون إلا نعيم الآخرة.
ثم قال :﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ معلوم بأن كل الرزق من عنده.
فقيل : إن التفاوت إنما كان بسبب أنه تعالى مختص بأن يرزق بما لا يقدر عليه غيره.
وقيل : المراد أنه الأصل في الرزق، وغيره إنما يرزق بما تقدم من الرزق من جهة الله.
وقيل : إن غيره ينقل من يده إلى يد غيره لا أنه يفعل نفس الرزق.
وقيل : إن غيره إذا رزق فإنما يرزق لانتفاعه به، إما لأجل خروجه عن الواجب أو لأجل أن يستحق به حمداً أو ثناء، أو لأجل الرقّة الجنسية، أما الحق سبحانه فإن كماله صفة ذاتية له فلا يستفيد من شيء كمالاً زائداً، فالرزق الصادر منه لمحض الإحسان.
وقيل : إن غيره إنما يرزق إذا حصل في قلبه إرادة ذلك الفعل، وتلك الإرادة من الله، فالرازق في الحقيقة هو الله.
١٣١

فصل قالت المعتزلة : الآية تدل على أمور ثلاثة : الأول : أن غير الله قادر.


الثاني : أن غير الله يصح أن يرزق ويملك، ولولا كونه قادراً فاعلاً لما صح ذلك.
الثالث : أن الرزق لا يكون إلا حلالاً، لأن قوله :" خَيْرُ الرَّازِقِيْن " يدل على كونهم ممدوحين.
والجواب : لا نزاع في كون العبد قادراً، فإن القدرة مع الداعي مؤثرة في الفعل بمعنى الاستلزام.
والثالث بحث لفظي تقدم الكلام فيه.
فصل دل قوله :﴿ثُمَّ قُتِلُوا ااْ أَوْ مَاتُواْ﴾ على أن حال المقتول في الجهاد والميت على فراشه سواء، لأنه تعالى جمع بينهما في الوعد، ويؤيده ما روى أنس أن النبي - ﷺ - قال :" المَقْتُولُ فِي سَبِيْلِ اللَّهِ والمُتَوَفَّى فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ قَتْلٍ هُمَا فِي الأَجْرِ شَريكَان " ولفظ الشركة مشعر بالتسوية وإلا فلا يبقى لتخصيصها بالذكر فائدة.
قوله :" لَيُدْخِلَنَّهُمْ " هذه الجملة يجوز أن تكون بدلاً من " لَيَرْزُقَنَّهُم " وأن تكون مستأنفة.
وقوله :" مُدْخَلاً يَرْضَوْنَه " قال ابن عباس : إنما قال :" يَرْضَوْنَه " لأنهم يرون في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
فـ " يَرْضَوْنَ " وقوله :﴿فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ﴾ [الحاقة : ٢١] وقوله :﴿ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً﴾ [الفجر : ٢٨] ﴿وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ [التوبة : ٧٢].
ثم قال :﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾ عليم بما يستحقونه فيفعله بهم ويزيدهم، أو عليم بما يرضونه فيعطيهم ذلك في الجنة، وأما الحليم فلا يعجل بالعقوبة على من يقدم على المعصية، بل يمهل لتقع منه التوبة فيستحق الجنة.
قوله تعالى :﴿ذالِكَ وَمَنْ عَاقَبَ﴾ " ذَلِكَ " خبر مبتدأ مضمر أي : الأمر ذلك وما بعده مستأنف.
والباء في قوله :﴿بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ﴾ للسببية في الموضعين قاله أبو البقاء
١٣٢


الصفحة التالية
Icon