والذي يظهر أن الأولى يشبه أن تكون للآلة.
" وَمَنْ عَاقَبَ " مبتدأ خبره " لَيَنْصُرَنَّه اللَّهُ ".
فصل المعنى : الأمر ذلك الذي قصصناه عليك ﴿وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ﴾ أي قاتل من كان يقاتله، ثم كان المقاتل مبغياً عليه بأن اضطر إلى الهجرة ومفارقة الوطن وابتُدِئ بالقتال.
قال مقاتل : نزلت في قوم من قريش أتوا قوماً من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم، وكره المسلمون قتالهم، وسألوهم أن يكفوا عن القتال من أجل الشهر الحرام، فأبوا وقاتلوهم فذلك بغيهم عليهم، وثبت المسلمون لهم فنُصِروا، فوقع في أنفس المسلمين من القتال في الشهر الحرام.
فأنزل الله هذه الآية، وعفا عنهم وغفر لهم.
والعقاب الأول بمعنى الجزاء، وأطلق اسم العقوبة على الأول للتعلق الذي بينه وبين الثاني كقوله تعالى :﴿وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا﴾ [الشورى : ٤٠] ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ [النساء : ١٤٢].
وهذه النُّصْرة تقوي تأويل من تأول الآية على مجاهدة الكفار لا على القصاص لأن ظاهر النص لا يليق إلا بذلك.
وقال الضحاك : هذه الآية في القصاص والجراحات لأنها مدنية.
قال الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه : من حَرَّق حَرَّقْنَاه، ومن غَرَّق غَرَّقْنَاه لهذا الآية، فإن الله تعالى جوَّز للمظلوم أن يعاقب بمثل ما عوقب به ووعده النصر.
وقال أبو حنيفة وأحمد في الرواية الأخرى : بل يقتل بالسيف.
فإن قيل : كيف تعلق الآية بما قبلها ؟ فالجواب : كأنه تعالى قال : مع إكرامي لهم في الآخرة بهذا الوعد لا أدع نصرتهم في الدنيا على من بغى عليهم.
ثم قال :﴿إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ﴾ أي إن الله ندب المعاقبين إلى العفو عن الجاني بقوله :﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ [الشورى : ٤٠] ﴿وَأَن تَعْفُوا ااْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ [البقرة : ٢٣٧] ﴿وَلَمَن صَبَرَ
١٣٣
وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ﴾ [الشورى : ٤٣] فلما لم يأت بهذا المندوب فهو نوع إساءة فكأنه تعالى قال : إني عفوت عن هذه الإساءة وغفرتها.
وقيل : إنه تعالى وإن ضمن له النصر على الباغي لكنه عرض مع ذلك بما هو أولى وهو العفو والمغفرة، فلوَّح بذكر هاتين الصفتين.
وفيه وجه آخر وهو أنه تعالى دل بذكر العفو والمغفرة على أنه قادر على العقوبة لأنه لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضده.
قوله :﴿ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ﴾ وفيه وجهان : الأول : أي : ذلك النصر بسبب أنه قادر، ومن قدرته كونه خالقاً لليل والنهار ومتصرفاً فيهما، فوجب أن يكون قادراً عالماً بما يجري فيهما، وإذا كان كذلك كان قادراً على النصر.
الثاني : المراد أنه مع ذلك النصر ينعم في الدنيا بما يفعله من تعاقب الليل والنهار وولوج أحدهما في الآخر.
ومعنى إيلاج أحدهما في الآخر أنه يحصل ظلمة هذا في ضياء ذلك بغيبوبة الشمس وضياء ذلك في ظلمة هذا بطلوعها كما يضيء البيت بالسراج ويظلم بفقده.
وقيل هو أن يزيد في أحدهما ما ينقص من الآخر من الساعات.
و " ذَلَكَ " مبتدأ و " بأَنَّ اللَّهَ " خبره، ثم قال :﴿وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ أي : أنه كما يقدر على ما لا يقدر عليه غيره، فكذلك يدرك المسموع والمبصر، ولا يجوز المنع عليه، وذلك كالتحذير من الإقدام على ما لا يجوز في المسموع والمبصر.
قوله :﴿ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ﴾ الآية.
قرأ العامة " وأن ما " عطفاً على الأول.
والحسن بكسرها استئنافاً.
وقوله :" هُوَ الحَقّ " يجوز أن يكون فصلاً ومبتدأ.
وجوَّز أبو البقاء أن يكون توكيداً.
وهو غلط لأن المضمر لا يؤكد المظهر، ولكان صيغة النصب أولى به من الرفع فيقال : إياه، لأن المتبوع منصوب.
وقرأ الأخوان
١٣٤
وحفص وأبو عمرو هنا وفي لقمان " يَدْعُونَ " بالياء من تحت.
والباقون بالتاء من فوق، والفعل مبني للفاعل وقرأ مجاهد واليماني بالياء من تحت مبنياً للمفعول.
والواو التي هي ضمير تعود على معنى " ما " والمراد بها الأصنام أو الشياطين، ومعنى الآية : أن ذلك الوصف الذي تقدم من القدرة على هذه الأمور لأجل أن الله هو الحق، أي : هو الموجود الواجب لذاته الذي يمتنع عليه التغيير والزوال وأن ما يفعل من عبادته هو الحق وما يفعل من عبادة غيره فهو الباطل كقوله :﴿لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلاَ فِي الآخِرَةِ﴾ [غافر : ٤٣].
﴿وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾ العلي القاهر المقتدر نبه بذلك على أنه القادر على الضر والنفع دون سائر من يعبد مرغباً بذلك في عبادته زاجراً عن عبادة غيره، وأما الكبير فهو العظيم في قدرته وسلطانه، وذلك يفيد كمال القدرة.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ١٣٠