قوله :﴿وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً﴾ السلب اختطاف الشيء بسرعة، يقال : سلبه نعمته.
والسلب : ما على القتيل، وفي الحديث :" مَنْ قَتَل قَتِيلاً فَلَهُ سَلَبه ".
وقوله :﴿لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ﴾ الاستنقاذ : استفعال بمعنى الإفعال، يقال : أنقذه من كربته، أي : أنجاه منه وخلصه، ومثله : أَبَلَّ المريض واسْتَبَلّ.
فصل كأنه تعالى قال : أترُكُ أمر الخلق والإيجاد وأتكلمُ فيما هو أسهل منه، فإن الذباب إذا سَلَبَ منها شيئاً فهي لا تقدر على استنقاذ ذلك الشيء من الذباب.
واعلم أن الدلالة الأولى صالحة لأن يتمسك بها في نفي كون المسيح والملائكة آلهة، وأما الثانية فلا.
فإن قيل : هذا الاستدلال إما أن يكون لنفي كون الأوثان خالقة عالمة حية مدبرة، وإما لنفي كونها مستحقة للتعظيم، والأول فاسد، لأن نفي كونها كذلك معلوم بالضرورة، فلا فائدة في إقامة الدلالة عليه.
وأما الثاني فهذه الدلالة لا تفيده، لأنه لا يلزم من نفي كونها حيّة أن لا تكون معظمة، فإن جهات التعظيم مختلفة، فالقوم كانوا يعتقدون فيها أنها طلسمات موضوعة على صور الكواكب، أو أنها تماثيل الملائكة والأنبياء المتقدمين.
فالجواب : أما كونها طلسمات موضوعة على الكواكب بحيث يحصل منها الضر والنفع، فهو يبطل بهذه الدلالة، فإنها لم تنفع نفسها في هذا القدر وهو تخليص النفس عن الذبابة فلأن لا تنفع غيرها أولى.
وأما أنها تماثيل الملائكة والأنبياء المتقدمين، فقد تقرر في العقل أنَّ تعظيمَ غير الله ينبغي أن يكون أقل من تعظيم الله، والقوم كانوا
١٥١
يعظمونها نهاية التعظيم، وحينئذ كان يلزم التسوية بينها وبين الخالق سبحانه في التعظيم، فمن هاهنا استوجبوا الذم.
فصل قال ابن عباس : كانوا يطلون الأصنام بالزعفران، فإذا جفَّ جاءت الذباب فاستلبته وقال السدي : كانوا يضعون الطعام بين يدي الأصنام فيقع الذباب عليه فيأكلن منه.
وقال ابن زيد : كانوا يحلون الأصنام باليواقيت واللآلئ وأنواع الجواهر، ويطيبونها بأنواع الطيب، فربما يسقط منها واحدة فأخذها طائر وذباب فلا تقدر الآلهة على استردادها ﴿ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾ قيل : هو إخبار.
وقيل : تعجب.
والأول أظهر.
قال ابن عباس : الطالب الذباب يطلب ما يسلب من الطيب عن الصنم، والمطلوب الصنم يطلب الذباب منه السلب.
وقيل : العكس الطالب الصنم والمطلوب الذباب، فالصنم كالطالب لأنه لو طلب أن يخلقه ويستنقذ منه ما استلبه لعجز عنه، والذباب بمنزلة المطلوب.
وقال الضحاك : الطالب العابد والمطلوب المعبود، لأن كون الصنم طالباً ليس حقيقة بل على سبيل التقدير.
وقيل : المعنى ضعف أي ظهر قبح هذا المذهب كما يقال عند المناظرة : ما أضعف هذا المذهب، وما أضعف هذا الوجه.
قوله :﴿ما قدروا الله حق قدره﴾ أي : ما عظموه حق تعظيمه، حيث جعلوا هذه الأصنام على نهاية خساستها شركاء له في المعبودية.
﴿إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ :" قويّ " لا يتعذر عليه فعل شيء " عزيز " لا يقدر أحد على مغالبته، فأي حاجة إلى القول بالشريك.
قال الكلبي : في هذه الآية وفي نظيرها في سورة الأنعام : أنها نزلت في مالك
١٥٢
ابن الصيف وكعب بن الأشرف، وكعب بن أسد، وغيرهم من اليهود، حيث قالوا : إن الله تعالى لما فرغ من خلق السموات والأرض أعيا من خلقها، فاستلقى واستراح، ووضع إحدى رجليه على الأخرى، فنزلت هذه الآية تكذيباً لهم، ونزل قوله :﴿وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ﴾ [ق : ٣٨].
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ١٤٩
قوله تعالى :﴿الله يصطفي من الملائكة رسلاً﴾ الآية لما ذكر ما يتعلق بالإلهيات ذكر هاهنا ما يتعلق بالنبوات.
قال بعضهم :[تقدير الكلام : ومن الناس رسلاً.
ولا حاجة لذلك، بل قوله " ومن الناس " مقدَّر التقديم، أي : يصطفي من الملائكة ومن الناس رسلاً].
قال مقاتل : قال الوليد بن المغيرة ﴿أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا﴾ ؟ [ص : ٨] فأنزل الله هذه الآية فإن قيل : كلمة " من " للتبعيض، فقوله " من الملائكة " يقتضي أن يكون الرسل بعضهم لا كلهم، وقوله :﴿جَاعِلِ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً﴾ [فاطر : ١] يقتضي كون كلهم رسلاً، فكيف الجمع ؟ فالجواب : يجوز أن يكون المذكور ههنا من كان رسلاً إلى بني آدم، وهم أكابر الملائكة كجبريل وميكائيل وإسرافيل، والحفظة صلوات الله عليهم، وأما كل الملائكة فبعضهم رسل إلى البعض.
فإن قيل : قوله في سورة الزمر ﴿لَّوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاَّصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ﴾ [الزمر : ٤] فدل على أن ولده يجب أن يكون مصطفى، وهذه الآية تدل على أن بعض الملائكة وبعض الناس من المصطفين، فلزم بمجموع الآيتين إثبات الولد.
فالجواب : أن قوله :﴿لَّوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاَّصْطَفَى ﴾ [الزمر : ٤] يدل على أن كل ولد
١٥٣