مصطفى ولا يدل على أن كل مصطفى ولد، فلا يلزم من دلالة هذه الآية على وجود مصطفى كونه ولداً.
وأيضاً فالمراد من هذه الآية تبكيت من عبد غير الله من الملائكة، كأنه سبحانه أبطل في الآية الأولى قول عبدة الأوثان، وفي هذه الآية أبطل قول عبدة الملائكة، فبين أن علو درجة الملائكة ليس لكونهم آلهة لأن الله اصطفاهم لمكان عبادتهم، فكأنه تعالى بيَّن أنهم ﴿مَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ [الحج : ٧٤] إذ جعلوا الملائكة معبودة مع الله.
ثم بين تعالى : بقوله :﴿إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ أنه يسمع ما يقولون، ويرى ما يفعلون ولذلك أتبعه بقوله تعالى :﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾.
قال ابن عباس : ما قدموا وما خلفوا وقال الحسن :﴿مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ ما عملوا، " وَمَا خَلْفَهُم " ما هم عاملون من بعد.
ثم قال :﴿وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ﴾ إشارة إلى القدرة التامة، والتفرد بالإلهية والحكم، ومجموعهما يتضمن نهاية الزجر عن الإقدام على المعصية.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ١٥٣
قوله تعالى :﴿ يا أيها الَّذِينَ آمَنُواْ ارْكَعُواْ وَاسْجُدُواْ﴾ إلى آخر السورة.
لما ذكر الإلهيات ثم النبوات أتبعه بالكلام في الشرائع، وهو من أربعة أوجه : الأول : تعيين المأمور.
والثاني : أقسام المأمور به.
والثالث : ذكر ما يوجب تلك الأوامر.
والرابع : تأكيد ذلك التكليف.
فأما تعيين المأمور به فهو قوله :﴿ يا أيها الَّذِينَ آمَنُواْ﴾ وهذ خطاب للمؤمنين ؛ لأنه
١٥٤
صرح بهم، ولقوله :" هُوَ اجْتَبَاكُمْ "، ولقوله :﴿هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ﴾، وقوله ﴿وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ﴾.
وقيل : خطاب لكل المكلفين مؤمناً كان أو كافراً ؛ لأن التكليف بهذه الإشارة عامّ في كل المكلفين فلا معنى لتخصيص المؤمن بذلك.
وأما فائدة التخصيص، فلأنه لما لم يقبله إلا المؤمنون خصهم بالذكر ليحرضهم على المواظبة على ما قبلوه، وكالتشريف لهم في ذلك الإفراد.
وأما المأمور فأربعة أمور : الأول : الصلاة وهو المراد بقوله :" ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا " وذلك لأن أشرف أركان الصلاة هو الركوع والسجود، والصلاة هي المختصة بهذين الركنين، فجرى ذكرهما مجرى ذكر الصلاة، وذكر ابن عباس : أن الناس كانوا في أول إسلامهم يركعون ولا يسجدون حتى نزلت هذه الآية.
والثاني : قوله :" وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ " قيل : وحدوه.
وقيل : اعبدوا ربكم في سائر المأمورات والمنهيات.
وقيل : افعلوا الركوع والسجود وسائر الطاعات بنية العبادة.
الثالث : قوله :" وَافْعَلُوا الخَيْرَ " قال ابن عباس : هو صلة الرحم ومكارم الأخلاق " لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ " لكي تفوزوا بالجنة.
وقيل : كلمة " لَعَلَّ " للترجي، فإن الإنسان قلما يخلو في أداء الفريضة من تقصير، فليس هو على يقين من أن الذي أتى به هل هو مقبول عند الله والعواقب مستورة " وكلٌّ ميسَّرٌ لما خُلِقَ له " فصل اختلفوا في سجود التلاوة عند قراءة هذه الآية، فذهب عمر وعلي وابن عمر وابن مسعود وابن عباس : إلى أنه يسجد، وبه قال ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق لما روى عقبة بن عامر قال :" قلت : يا رسول الله فضلت سورة الحج بأن فيها سجدتين قال :" نعم، من لم يسجدهما فلا يقرأهما " وقال سفيان الثوري وأصحاب الرأي : لا يسجد هاهنا.
وعدد سجود القرآن أربع عشرة سجدة عند أكثر أهل العلم منها ثلاث في المفصل، وروي عن أبيّ بن كعب وابن عباس : ليس في المفصل سجود، وبه قال مالك.
١٥٥
وقد صح عن أبي هريرة قال : سجدنا مع رسول الله - ﷺ - في " اقْرَأ " و ﴿إِذَا السَّمَآءُ انشَقَّتْ﴾ [الانشقاق : ١].
وأبو هريرة متأخر الإسلام.
واختلفوا في سجدة ص فروي عن ابن عباس أنها سجدة شكر وهو مذهب الشافعي وعن عمر أنه يسجد فيها، وهو قول الثوري وابن المبارك وأصحاب الرأي وأحمد وإسحاق.
الرابع : قوله :﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ﴾ يجوز أن يكون " حَقَّ جِهَادِهِ " منصوباً على المصدر، وهو واضح.
وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكون نعتاً لمصدر محذوف، أي جهاداً حق جهاده.
وفيه نظر من حيث إن هذا معرفة فكيف يجعل صفة لنكرة.
قال الزمخشري : فإن قلت : ما وجه هذه الإضافة، وكان القياس : حقّ الجهاد فيه أو حق جهادكم فيه كما قال ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ﴾.
قلت : الإضافة تكون بأدنى ملابسة واختصاص فلما كان الجهاد مختصاً بالله من حيث إنه مفعول من أجله ولوجهه صحت إضافته إليه، ويجوز أن يتسع في الظرف كقوله :
٣٧٧٩ - وَيَوْمٍ شَهِدْنَاهُ سُلَيْماً وَعَامِرا
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ١٥٤


الصفحة التالية
Icon