يعني بالظرف الجار والمجرور كأنه كان الأصل : حق جهاد فيه.
فحذف حرف الجر وأضيف المصدر للضمير، وهو من باب هو حقّ عالم وجد، أي : عالم حقاً وعالم جداً.
فصل المعنى : جاهدوا في سبيل الله " أعداء اللَّه حَقَّ جِهَادِهِ " هو استفراغ الطاقة فيه.
قاله ابن عباس، وعنه قال : لا تخافون لومة لائم.
وقال الضحاك ومقاتل : اعملوا لله حق عمله واعبدوه حق عبادته.
وقال مقاتل بن سليمان : نسخها قوله :﴿فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن : ١٦] وهذا بعيد لأن التكليف شرطه القدرة لقوله تعالى :﴿لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً
١٥٦
إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ [البقرة : ٢٨٦] ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [البقرة : ٧٨] و ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة : ١٨٥].
فكيف يقول :﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ﴾ على وجه لا يقدرون عليه ؟ وقال أكثر المفسرين : حق الجهاد أن يكون بنية صادقة.
وقيل : يفعله عبادة لا رغبة في الدنيا من حيث الاسم والغنيمة.
وقيل : يجاهدوا آخراً كما جاهدوا أولاً، فقد كان جهادهم في الأول أقوى، وكانوا فيه أثبت نحو صنعهم يوم بدر، روي عن عمر أنه قال لعبد الرحمن بن عوف : أما علمت أنا كنا نقرأ " وَجَاهِدُوا في اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ في آخر الزمان كما جاهدتم في أوله " ؟ قال عبد الرحمن : ومتى ذلك يا أمير المؤمنين ؟ قال : إذا كانت بنو أمية الأمراء، وبنو المغيرة الوزراء.
واعلم أنه يبعد أن تكون هذه الزيادة من القرآن، وإلا لنقل كنقل نظائره، ولعله إن صح ذلك عن الرسول فإنما قاله كالتفسير للآية.
وروي عن ابن عباس أنه قرأ :" وَجَاهِدُوا في اللَّهِ حَقَّ جَهَادِهِ كما جاهدتم أول مرة " فقال عمر - رضي الله عنه - : من الذي أمرنا بجهاده ؟ فقال : قبيلتان من قريش مخزوم وعبد شمس، فقال : صدقت.
وقيل : معنى الآية : استفرغوا وسعكم في إحياء دين الله، وإقامة حقوقه بالحرب واليد واللسان، وجميع ما يمكن، وردوا أنفسكم عن الهوى والميل وقال ابن المبارك : هو مجاهدة النفس والهوى، وهو الجهاد الأكبر [وهو حق الجهاد وقد روي أن رسول الله - ﷺ - لما رجع من غزوة تبوك قال :" رجعنا من الجهاد والأصغر إلى الجهاد الأكبر " ] وأراد بالجهاد الأصغر الجهاد مع الكفار، وبالجهاد الأكبر الجهاد مع النفس.
وأما بيان ما يوجب قبول هذه الأوامر، فهو ثلاثة : الأول : قوله :" هُوَ اجْتَبَاكُمْ " اختاركم لدينه، وهذه من أعظم التشريفات، فأي رتبة أعلى من هذه، وأي سعادة فوق هذا.
ثم قال :﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ وهو كالجواب عن سؤال، وهو أن التكليف وإن كان تشريفاً لكنه شاق على النفس ؟ أجاب بعضهم بقوله :﴿مَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾، [روي أن أبا هريرة - رضي
١٥٧
الله عنه قال : كيف قال الله ﴿ما جعل عليكم في الدين من حرج﴾ ] مع أنه منعنا عن الزنا ؟ فقال ابن عباس : بلى، ولكن الإصر الذي كان على بني إسرائيل وضع عنّا.
وهذا قول الكلبي، قال المفسرون : معناه لا يبتلى بشيء من الذنوب إلا جعل الله له منها مخرجاً بعضها بالتوبة، وبعضها برد المظالم والقصاص، وبعضها بالكفارات وليس في دين الله ذنب إلا يجد العبد سبيلاً إلى الخلاص من العذاب منه.
وقال ابن عباس ومقاتل : هو الإتيان بالرخص، فمن لم يستطع أن يصلي قائماً فليصل جالساً، ومن لم يستطع ذلك فَلْيُوم، وإباحة الفطر في السفر للصائم، والقصر فيه والتيمم وأكل الميتة عند الضرورة.
فصل استدلت المعتزلة بهذه الآية على المنع من تكليف ما لا يطاق، وقالوا : لما خلق الله الكفر والمعصية في الكافر والعاصي، ثم نهاه عنه كان ذلك من أعظم الحرج، وذلك منفي بصريح هذا النص.
والجواب أنه لما أمره بترك الكفر، وترك الكفر يقتضي انقلاب علمه جهلاً، فقد أمر المكلف بقلب علم الله جهلاً، وذلك من أعظم الحرج، ولما استوعى العدمان زال السؤال.
الموجب الثاني : قوله :" مِلَّةَ أَبِيكُمْ " فيه أوجه : أحدها : أنها منصوبة باتبعوا مضمراً.
قاله الحوفي وتبعه أبو البقاء.
الثاني : أنها منصوبة على الاختصاص، أي : أعني بالدين ملة أبيكم.
الثالث : أنها منصوبة بمضمون ما تقدمها، كأنه قال : وسع دينكم توسعة ملة أبيكم، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
قاله الزمخشري.
وهذا أظهرها.
الرابع : أنها منصوبة بجعلها مقدراً.
قاله ابن عطية.
١٥٨