أحدها : أنها تتعلق بمحذوف إذ هي صفة لـ " سُلاَلَة ".
الثاني : أنها تتعلق بنفس " سُلاَلَة " لأنها بمعنى مسلولة.
الثالث : أنها تتعلق بـ " خَلَقْنَا "، لأنها بدل من الأولى إذا قلنا : إنّ السلالة هي نفس الطين.
قوله :﴿ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً﴾ في هذا الضمير قولان : أحدهما : أنه يعود للإنسان، فإن أريد غير آدم فواضح، ويكون خلقه من سلالة الطين خلق أصله، وهو آدم (فيكون على حذف مضاف وإن كان المراد به آدم، فيكون الضمير عائداً على نسله، أي : جعلنا نسله)، فهو على حذف مضاف أيضاً، ويؤيده قوله :﴿وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِن طِينٍ.
ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ﴾
[السجدة : ٧ - ٨].
أو عاد الضمير على الإنسان اللائق به ذلك، وهو نسل آدم، فلفظ الإنسان من حيث هو صالح للأصل والفرع، ويعود كل شيء لما يليق به وإليه نحا الزمخشري.
قوله :" فِي قَرَارٍ " يجوز أنْ يتعلق بالجعل، وأن يتعلق بمحذوف على أنه صفة لـ " نُطْفَة ".
والقرار : المستقر، وهو موضع الاستقرار، والمراد بها الرحم، وصفت بالمكانة التي هي صفة المستقر فيها لأحد معنيين : إمَّا على المجاز كطريق سائر، وإنما السائر من فيه، وإِمّا لمكانتها في نفسها لأنها تمكنت بحيث هي وأحرزت.
ومعنى جعل الإنسان نطفة أنه خلق جوهر الإنسان أولاً طيناً، ثم جعل جوهره بعد ذلك نطفة في أصلاب الآباء فقذفه الصلب بالجماع إلى رحم المرأة، فصار الرحم قراراً مكيناً لهذه النطفة تتخلق فيه إلى أن تصير إنساناً.
قوله :﴿ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً﴾ وما بعدها ضمن " خَلَق " معنى " جَعَل " التصييرية فتعدت لاثنين كما يضمن " جَعَل " معنى " خَلَق " فيتعدى لواحد نحو ﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ [الأنعام : ١].
والمعنى : حولنا النطفة عن صفاتها
١٧٨
إلى صفات العلقة، وهي الدم الجامد ﴿فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً﴾ أي : جعلنا ذلك الدم الجامد مضغة، أي : قطعة لحم، كأنها مقدار ما يمضع كالغرفة، وهو ما يغترف.
وسمى التحويل خلقاً، لأنه تعالى يفني بعض أعراضها، ويخلق أعراضاً غيرها، فسمى خلق الأعراض خلقاً لها، كأنه سبحانه يخلق فيها أجزاء زائدة.
قوله :﴿فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً﴾ أي : صيرناها كذلك.
وقرأ العامة :" عِظاماً " و " العِظَام " بالجمع فيهما، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم :" عَظْماً " و " العَظمَ " بالإفراد فيهما، والسلمي والأعرج، والأعمش بإفراد الأول وجمع الثاني، وأبو رجاء، ومجاهد، وإبراهيم بن أبي بكر بجمع الأول وإفراد الثاني عكس ما قبله.
فالجمع على الأصل، لأنه مطابق لما يراد به، والإفراد للجنس كقوله :" وَالمَلَكُ صَفًّا "، وكقوله :﴿وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي﴾ [مريم : ٤].
وقال الزمخشري : وضع الواحد موضع الجمع لزوال اللبس، لأنَّ الإنسان ذو عظام كثيرة.
قال أبو حيان : وهذا عند سيبويه وأصحابه لا يجوز إلا (لضرورة) وأنشدوا :
٣٧٨٤ - كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُم تَعِفُّوا
١٧٩
وإن كان معلوماً أن كل واحد له بطن.
قال شهاب الدين : ومثله : ٣٧٨٥ - لا تُنْكِرُوا القَتْلَ وقَدْ سَبَيْنَا
فِي حَلْقِكُمْ عَظْمٌ وَقَدْ شَجَيْنَا
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ١٧٥
يريد في حلوقكم ومثله قوله الآخر : ٣٧٨٦ - بِهَا جِيَفُ الحسْرَى فأَمَّا عِظَامُهَا
فَبِيضٌ وأَمّا جِلْدُهَا فَصَلِيبُ
يريد جلودها، ومنه " وعَلَى سَمْعِهِمْ ".
قوله :﴿فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً﴾ أي : ألبسنا، لأنّ اللحم يستر العظم فجعله كالكسوة (لها) قيل : بين كل خلقين أربعون يوماً.
﴿ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ﴾ أي : خلقاً مبايناً للخلق الأول مباينة ما أبعدها حيث جعله حيواناً، وكان جماداً، وناطقاً وكان أبكم وسميعاً وكان أصم وبصيراً وكان أكمه، وأودع باطنه وظاهره بل كل جزء من أجزائه عجائب فطرة، وغرائب حكمة لا يحيط بها وصف الواصفين.
قال ابن عباس ومجاهد والشعبي وعكرمة والضحاك وأبو العالية : المراد بالخلق الآخر هو نفخ الروح فيه.
وقال قتادة : نبات الأسنان والشعر، وروى ابن جريج عن مجاهد : أنه استواء الشباب.
وعن الحسن قال : ذكر أو أنثى.
وروى العوفي عن ابن عباس : أنّ ذلك تصريف أحواله بعد الولادة من الاستهلال إلى الارتفاع إلى القعود إلى القيام إلى المشي إلى أن يأكل ويشرب إلى أن يبلغ الحلم، وخلق الفهم والعقل ويتقلب في البلاد إلى ما بعدها إلى أنْ يموت.
قالوا : وفي هذه الآية دلالة على بطلان قول النظام أن الإنسان هو الروح لا البدن، فإنه سبحانه بَيَّن أنَّ الإنسان هو المركب من هذه الأشياء.
وفيها دلالة أيضاً
١٨٠


الصفحة التالية
Icon