على بطلان قول الفلاسفة الذين يقولون : الإنسان شيء لا ينقسم وإنه ليس بجسم.
وقال :" فَتَبَارَك اللَّهُ " أي : فتعالى الله، لأنَّ البركة يرجع معناها إلى الامتداد والزيادة وكل ما زاد على الشيء فقد علاه.
ويجوز أن يكون المعنى البركات والخيرات كلها من الله.
وقيل : أصله من البروك وهو الثبات، فكأنه قال : البقاء والدوام والبركات كلها منه، فهو المستحق للتعظيم والثناء بأنه لم يزل ولا يزال " أَحسَنُ الخَالِقِينَ " المصورين والمقدرين.
والخلق في اللغة : التقدير، قال زهير : ٣٧٨٧ - ولأَنْتَ تَفْري مَا خَلقْتَ وَبَعْـ
ضُ القَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لاَ يَفْرِي
قوله :" أَحْسَنُ الخَالِقِينَ " فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أنه بدل من الجلالة.
الثاني : أنه نعت للجلالة، وهو أولى مما قبله، لأنّ البدل بالمشتق يقل.
الثالث : أنْ يكون خبر مبتدأ مضمر أي : هو أحسن، والأصل عدم الإضمار.
وقد منع أبو البقاء أن يكون وصفاً، قال : لأنه نكرة وإن أضيف لمعرفة لأنّ المضاف إليه عوض عن " من "، وهكذا جميع أفعل منك.
قال شهاب الدين : وهذا بناء منه على أحد القولين في أفعل التفضيل إذا أضيف هل إضافته محضة أم لا، والصحيح الأول.
والمميز لأفعل محذوف لدلالة المضاف إليه
١٨١
عليه، أي : أحسن الخالقين خلقاً المقدرين تقديراً كقوله :﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ﴾ [الحج : ٣٩] أي : في القتال حذف المأذون فيه لدلالة الصلة عليه.
فصل قالت المعتزلة : لولا أن يكون غير الله قد يكون خالقاً لما جاز القول بأنه أحسن الخالقين، كما لو لم يكن في عباده من يحكم ويرحم لم يجز أن يقال فيه :" أَحْكَمُ الحَاكِمِينَ " و " أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ".
والخلق في اللغة : هو كل فعل وُجد من فاعله مقدّراً لا على سهو وغفلة، والعباد قد يفعلون ذلك على هذا الوجه.
قال الكعبي : هذه الآية وإن دلت على أن العبد خالق إلا أن اسم الخالق لا يطلق على العبد إلا مع القيد، كما أنه يجوز أن يقال : رَبُّ الدار، ولا يجوز أن يقول : رب، ولا يقول العبد لسيده : هذا ربّي، ولا يقال : إنما قال الله سبحانه ذلك لأنه وَصفَ عيسى - عليه السلام - بأنه يَخْلُق مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ.
لأنا نجيب من وجهين : أحدهما : أن ظاهر الآية يقتضي أنه سبحانه " أَحسَنُ الخَالِقِينَ " الذين هم جمع فحمله على عيسى خاصة لا يصح.
الثاني : أنه إذا صحّ وصف عيسى بأنه يخلق صحّ أنّ غيره سبحانه يخلق وصحّ أيضاً وصف غيره من المصورين بأنه يخلق.
وأجيب بأن هذه الآية معارضة بقوله :﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الزمر : ٦٢] فوجب حمل
١٨٢
هذه الآية على أنه " أَحسَنُ الخَالِقينَ " في اعتقادكم وظنكم كقوله :﴿وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ [الروم : ٢٧].
وجواب ثان، وهو أنّ الخالق هو المقدر، لأن الخلق هو التقدير، فالآية تدل على أنه تعالى أحسن المقدرين، والتقدير يرجع معناه إلى الظن والحسبان، وذلك في حق الله تعالى محال، فتكون الآية من المتشابه.
وجواب ثالث : أنّ الآية تقتضي كون العبد خالقاً بمعنى كونه مقدراً لكن لم قلت إنه خالق بمعنى كونه موحداً.
فصل قالت المعتزلة : الآية تدل على أنّ كل ما خلقه الله حسن وحكمة وصواب وإلا لما جاز وصفه بأنه أحسن الخالقين، وإذا كان كذلك وجب أن لا يكون خالقاً للكفر والمعصية، فوجب أن يكون العبد هو الموجد لهما.
وأجيب بأنّ من الناس من حمل الحسن على الأحكام والإتقان في التركيب والتأليف، ثم لو حملناه على ما قالوه فعندنا أنه يحسن من الله كل الأشياء، لأنه ليس فوقه أمر ونهي حتى يكون ذلك مانعاً له عن فعل شيء.
فصل روى الكلبي عن ابن عباس أنّ عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان يكتب هذه الآيات لرسول الله ﷺ فلما انتهى إلى قوله :" خَلْقاً آخَرَ " عجب من ذلك فقال : فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحَسَنُ الخَالِقِينَ، فقال رسول الله ﷺ :" اكتبْ فَهكَذَا نزلت " فشك عبد الله وقال : إن كان محمد صادقاً فيما يقول، فإنه يُوحَى إليّ كما يُوحَى إليه، وإن كان كاذباً فلا خير في دينه، فهرب إلى مكة، فقيل : إنه مات على الكفر، وقيل : إنه أسلم يوم الفتح وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية قال عمر بن الخطاب : فتبارك اللَّهُ أحسن الخالقين.
فقال رسول الله :" هكذا أُنزلَ يا عمر ".
وكان عمر يقول : وافقني ربي في أربع : الصلاة خلف المقام، وضرب الحجاب على النسوة، وقولي لهنّ : أو ليُبْدِلَهُ اللَّهُ خيراً مِنْكُنّ، فنزل قوله :﴿عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ﴾ [التحريم : ٥]، والرابع قوله :﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ قال العارفون : هذه الواقعة
١٨٣


الصفحة التالية
Icon