الشبهة الثالثة : قولهم :﴿مَّا سَمِعْنَا بِهَـاذَا فِى آبَآئِنَا الأَوَّلِينَ﴾ فقولهم :" بِهَذا " إشارة إلى نوح - عليه السلام - أي : بإرسال بشر رسولاً، أو بهذا الذي يدعو إليه نوح وهو عبادة الله وحده، لأنّ آباءهم كانوا يعبدون الأوثان، وذلك أنهم كانوا لا يُعوّلون في شيء من مذاهبهم إلا على التقليد والرجوع إلى قول الآباء، فلمّا لم يجدوا في نبوة نوح - عليه السلام - هذه الطريقة حكموا بفسادها.
الشبهة الرابعة : قولهم :﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ﴾ أي : جنون، وهذه الشبهة من باب الترويج على العوام، لأنه - عليه السلام - كان يفعل أفعالاً على خلاف عاداتهم، فكان الرؤساء يقولون للعوام إنه مجنون، فكيف يجوز أن يكون رسولاً ؟ الشبهة الخامسة : قولهم :﴿فَتَرَبَّصُواْ بِهِ حَتَّى حِينٍ﴾، وهذا يحتمل أن يكون متعلقاً بما قبله، أي : أنه مجنون فاصبروا إلى زمان يظهر عاقبة أمره فإن أفاق وإلا فاقتلوه.
ويحتمل أن يكون كلاماً مستأنفاً، وهو أن يقولوا لقومهم : اصبروا فإنه إنه كان نبياً حقاً فالله ينصره ويقوي أمره فنتبعه حينئذ، وإن كان كاذباً فالله يخذله ويبطل أمره فحينئذ نستريح منه.
واعلم أنه تعالى لم يذكر الجواب على هذه الشبه لركاكتها ووضح فسادها لأنَّ كل عاقل يعلم أنَّ الرسول لا يصير رسولاً لكونه من جنس الملك وإنما يصير رسولاً بتميزه عن غيره بالمعجزات، فسواء كان من جنس الملك أو من جنس البشر فعند ظهور المعجز عليه يجب أن يكون رسولاً، بل جعل الرسول من البشر أولى لما تقدم من أن الجنسية مظنة الألفة والمؤانسة.
وأما قولهم :﴿يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ﴾ فإن ارادوا إرادته لإظهار فضله حتى يلزمهم الانقياد لطاعته فهذا واجب في الرسول، وإن أرادوا أنه يترفع عليهم على سبيل التكبر فالأنبياء منزهون عن ذلك.
وأما قولهم :﴿مَّا سَمِعْنَا بِهَـاذَا﴾ فهو استدلال بعدم التقليد (على عدم وجود الشيء، وهو في غاية السقوط، لأنّ وجود التقليد) لا يدل على وجود الشيء، فعدمه من أين يدل على عدمه.
وأما قولهم :" بِهِ جِنَّة " فكذبوا لأنهم كانوا يعلمون بالضرورة كمال عقله.
وأما قولهم :" فَتَرَبَّصُوا " فضعيف، لأنه إن ظهرت الدلالة على نبوته، وهي المعجزة،
١٩٦
وجب عليهم قبول قوله في الحال، ولا يجوز توقيف ذلك إلى ظهور دولته، لأنَّ الدولة لا تدل على الحقيقة، وإن لم يظهر المعجز لم يجز قبول قوله سواء ظهرت الدولة أو لم تظهر.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ١٩٤
قوله تعالى :﴿قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ﴾ أي : أعِنّي على هلاكهم بتكذيبهم إياي (كأنه قال : أهلكهم بسبب تكذيبهم).
وقيل : انصرني بدل ما كذبون كما تقول : هذا بذاك، أي بدل ذاك ومكانه.
وقيل : انصرني بإنجاز ما وعدتهم من العذاب، وهو ما كذبوه فيه حين قال لهم :﴿إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [الأعراف : ٥٩].
ولمَّا أجاب الله دعاءه قال :﴿فَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا﴾ أي : بحفظنا وكلائنا، كان معه من الله حُفّاظاً يكلأونه بعيونهم لئلا يتعرض له ولا يفسد عليه عمله.
قيل : كان نوح نجاراً، وكان عالماً بكيفية اتخاذ الفلك.
وقيل : إن جبريل - عليه السلام - علّمه السفينة.
وهذا هو الأقرب لقوله :" بأَعْيُنِنَا وَوَحْينَا ".
﴿فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا﴾.
واعلم أن لفظ الأمر كما هو حقيقة في طلب الفعل بالقول على سبيل الاستعلاء، فكذا هو حقيقة في الشأن العظيم، لأن قولك : هذا أمر تردد الذهن بين المفهومين فدل ذلك على كونه حقيقة فيهما.
وقيل : إنما سماه أمراً تعظيماً وتفخيماً كقوله :﴿قَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً﴾ [فصلت : ١١].
١٩٧
قوله :" وَفَارَ التَّنُّور " تقدم الكلام في التنور في سورة هود.
" فَاسْلُكْ فِيهَا " أي : ادخل فيها.
يقال : سَلَك فيه دَخَلَهُ، وسَلَكَ غيره وأَسْلَكَهُ ﴿مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ﴾ أي : من كل زوجين من الحيوان (الذي يحضره في الوقت اثنين الذكر والأنثى لكيلا ينقطع نسل ذلك الحيوان) وكل واحد منهما زَوْج، لا كما تقوله العامة : إنَّ الزوجَ هو الاثنان.
روي أنه لم يحمل إلاّ ما يَلِدُ ويَبيضُ.
وقرئ :" مِنْ كُلٍّ " بالتنوين و " اثْنَيْن " تأكيد وزيادة بيان " وَأهْلَكَ " أي : وأدْخل أَهْلَك ﴿إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ﴾ ولفظ (على) إنما يستعمل في المضارّ قال تعالى :﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ [البقرة : ٢٨٦].
وهذه الآية تدل على أمرين :
١٩٨