في قراءة العامة.
و " ما " في " لِمَا تُوعَدُونَ " تحتمل المصدرية، أي : لوعدكم، وأن تكون بمعنى الذي، والعائد محذوف، أي : توعدونه.
قوله :" إنْ هِيَ " " هي " ضمير يفسره سياق الكلام، أي : إن الحياة إلا حياتنا.
وقال الزمخشري : هذا ضمير لا يعلم ما يُراد به إلاَّ بما يتلوه من بيانه، وأصله : إن الحياة ﴿إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا﴾، فوضع " هي " موضع " الحياة " لأنّ الخبر يدل عليها ويبينها، ومنه : هي النَّفْس تتحمل مَا حُمِّلَتْ، وهي العَرَبُ تقول ما شَاءَتْ.
وقد جعل بعضهم هذا القسم مما يفسر بما بعده لفظاً ورتبةً، ونسبه إلى الزمخشري متعلقاً بما نقلناه عنه.
قال شهاب الدين : ولا تعلق له في ذلك.
قوله :" نَمُوتُ ونَحْيَا " جملة مفسرة لما ادّعوه من أنَّ حياتهم ما هي إلا كذا.
وزعم بعضهم أنَّ فيها دليلاً على عدم الترتيب في الواو، إذ المعنى : نحيا ونموت إذ هو الواقع.
ولا دليل فيها لأنّ الظاهر من معناها يموت البعض منا ويحيا آخرون وهلم جرًّا يسير إلى انقراض العصر ويخلف غيره مكانه.
وقل : نموت نحن ويحيا أبناؤنا.
وقيل : القوم كانوا يعتقدون الرجعة أي : نموت ثم نحيا بعد ذلك الموت.
فصل اعلم أنَّ القوم طعنوا في نبوّته بكونه بشراً يأكل ويشرب، ثم جعلوا طاعته خسراناً : أي : إنكم إن أعطيتموه الطاعة من غير أن يكون لكم بإزائها نفع، فذلك هو الخسران، ثم طعنوا في صحة الحشر والنشر، فقالوا :﴿أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ﴾ معادون أحياء للمجازاة، ثم لم يقتصروا على هذا القدر حتى
٢١٣
قرنوا به الاستبعاد العظيم، فقالوا :﴿هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ﴾ ثم أكدوا ذلك بقولهم :﴿إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا﴾ ولم يريدوا بقولهم :" نَمُوتُ ونَحْيَا " الشخص الواحد، بل أرادوا أن البعض يموت والبعض يحيا، وأنه لا إعادة ولا حشر فلذلك قالوا :﴿وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾ ثم بنوا على هذا فطعنوا في نبوّته وقالوا لما أتى في دينه بهذا الباطل فقد ﴿افتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ﴾.
واعلم أنَّ الله - تعالى - ما أجاب عن هاتين الشبهتين لظهور فسادهما أمّا الأولى : فتقدم الجواب عنها.
وأمّا إنكارهم الحشر والنشر فجوابه، أنّه لمّا كان قادراً على كل الممكنات عالماً بكل المعلومات وجب أن يكون قادراً على الحشر والنشر، وأيضاً : فلولا الإعادة لكان تسليط القويِّ على الضعيف في الدنيا ظلماً، وهو غير لائق بالحكيم على ما تقرر في قوله تعالى :﴿إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ﴾ [طه : ١٥].
واعلم أنَّ الرسول لمّا يئس من قبول دعوته فزع إلى ربّه وقال :﴿رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ﴾ وقد تقدّم تفسيره.
فأجاب الله سؤاله وقال :﴿عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ﴾.
قوله :" عَمَّا قَلِيلٍ " في (ما) هذه وجهان : أحدهما : أنّها مزيدة بين الجار والمجرور للتوكيد كما زيدت الباء نحو :" فَبِمَا رَحْمَةٍ "، وفي من نحو " مِمَّا خَطَايَاهُمْ ".
و " قَلِيلٍ " صفة لزمن محذوف، أي : عن زمن قليل.
والثاني : أنّها غير زائدة، بل هي نكرة بمعنى شيء أو زمن، و " قَلِيلٍ " صفتها، أو بدل منها، وهذا الجار فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أنّه متعلق بقوله :" لَيُصْبِحُنَّ "، أي : ليصبحن عن زمن قليل نادمين.
٢١٤
الثاني : أنه متعلق بـ " نَادِمِين "، وهذا على أحد الأقوال في لام القسم، وذلك أنّ فيها ثلاثة أقوال : جواز تقديم معمول ما بعدها عليها مطلقاً، وهو قول الفراء وأبي عبيدة.
والثاني : المنع مطلقاً، وهو قول جمهور البصريين.
والثالث : التفصيل بين الظرف وعديله وبين غيرهما، فيجوز للاتساع ويمتنع في غيرهما فلا يجوز في : والله لأضربن زيداً، زيداً لأضربن لأنه غير ظرف ولا عديله.
والثالث من الأوجه المتقدمة : أنّه متعلق بمحذوف تقديره : عَمّا قَلِيلٍ تنصر حذف لدلالة ما قبله عليه، وهو قوله :" رَبّ انْصُرْنِي ".
وقرئ :" لَتُصْبِحُنَّ " بتاء الخطاب على الالتفات، أو على أنَّ القول صدر من الرسول لقومه بذلك.
قوله :" عَمَّا قَلِيلٍ " الآية معناه أنه يظهر لهم علامات الهلال فعند ذلك يحصل لهم الحسرة والندامة على ترك القبول.
ثم بيّن تعالى الهلاك الذي أنزل عليهم بقوله :﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ﴾ قيل : إن جبريل - عليه السلام - صاح بهم صيحةً عظيمةً فهلكوا.
وقال ابن عباس : الصيحة الرجفة.
وعن الحسن : الصيحة نفس العذاب والموت.
كما يقال فيمن يموت : دعي فأجاب.
وقيل : هي العذاب المصطلم، قال الشاعر : ٣٧٩٧ - صاح الزمان بآل برمك صيحة
خروا لشدتها على الأذقان
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٠٢


الصفحة التالية
Icon