والأول أولى لأنه الحقيقة.
قوله :" بالحقِّ " أي : دمرناهم بالعدل، من قولك : فلانٌ يقضي بالحق إذا كان عادلاً في قضائه.
وقال المُفضل :" بالحقِّ " بما لا مدفع له كقوله :﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ﴾ [ق : ١٩].
٢١٥
قوله :" فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً " الجعل بمعنى : التصيير، و " غُثَاءً " مفعول ثان، والغُثَاء : قيل : هو الجفاء، وتقدم في الرعد، قاله الأخفش وقال الزجاج : هو البالي من ورق الشجر والعيدان إذا جرى السيل خالط زبده واسود، ومنه قوله :" غُثَاءً أَحْوَى " وقيل : كل ما يلقيه السيل والقدر مما لا ينتفع به، وبه يُضْربُ المثل في ذلك ولامه واو، لأنه من غَثَا الوادي يَغْثُوا غَثْواً، وكذلك غَثَتِ القِدر، وأمّا غَثِيَتْ نَفْسُهُ تَغْثِي غَثَيَاناً، أي : خَبُثَتْ.
فهو قريب من معناه، ولكنه من مادة الياء.
وتشدد (ثاء) الغُثَاء، وتُخفَّف، وقد جمع على أَغْثَاء، وهو شاذ، بل كان قياسه أن يجمع على أغْثِية، كَأغْرِيَة، وعلى غِيثَان، كغِرْبَان، وغِلْمَان وأنشدوا لامرئ القيس :
٣٧٩٨ - مِنَ السَّيْلِ والغُثَّاءُ فَلْكَةُ مِغْزَلِ
بتشديد الثاء، وتخفيفها، والجمع، أي : والأَغْثَاء.
قوله :﴿فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ " بُعْداً " مصدر يذكر بدلاً من اللفظ بفعله فناصبه واجب الإضمار لأنه بمعنى الدعاء عليهم، والأصل : بَعُدَ بُعْداً وبَعَداً نحو رَشُدَ رُشْداً ورَشَداً وفي هذه اللام قولان :
٢١٦
أظهرهما : أنها متعلقة بمحذوف للبيان، كهي في سَقْياً له، وجَدْعاً له.
قاله الزمخشري.
والثاني : أنَّها متعلقة بـ " بُعْداً " قاله الحوفي.
وهذا مردود، لأنه لا يُحفظ حذف هذه اللام، ووصول المصدر إلى مجرورها ألبتة، ولذلك منعوا الاشتغال في قوله :﴿وَالَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ﴾ [محمد : ٨] لأن اللام لا تتعلق بـ " تَعْساً " بل بمحذوف، وإن كان الزمخشري جَوَّز ذلك، وسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.
فصل " فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً " صيرناهم هلكى فَيَبِسُوا يَبْسَ الغثاء من نبات الأرض، " فَبُعْداً " بمنزلة اللعن الذي هو التبعيد من الخير " لِلقَوْمِ الظَالِمِينَ " الكافرين، ذكر هذا على وجه الاستخفاف والإهانة لهم.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٠٢
قوله تعالى :﴿ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ﴾ أي : أقواماً آخرين.
قيل : المراد قصة لُوط، وشعيب، وأيوب، ويوسف - صلوات الله عليهم أجمعين -، والمعنى : أنه ما أخلى الديار من المكلفين.
﴿مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا﴾ (مِنْ) صلة كأيّ : ما تَسْبِقُ أمة أجلها وقت هلاكها.
وقيل : آجال حياتها وتكليفها.
قال أهل السنة : هذه الآية تدل على أن المقتول ميّت بأجله، إذ لو قتل قبل أجله لكان قد تقدّم الأجل أو تأخر، وذلك ينافيه هذا النص.
قوله :﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى﴾ في " تَتْرَى " وجهان :
٢١٧
أظهرهما : أنه منصوب على الحال من " رُسُلنَا "، يعني : متواترين أي : واحداً بعد واحد، أو متتابعين على حسب الخلاف في معناه.
وحقيقته : أنه مصدر واقع موقع الحال.
والثاني : أنه نعت مصدر محذوف، تقديره : إرسالاً تَتْرَى، أي : متتابعاً أو إرسالاً إثر إرسال وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر، وهي قراءة الشافعي " تَتْرًى " بالتنوين، ويقفون بالألف، وباقي السبعة " تَتْرَى " بألف صريحة دون تنوين، والوقف عندهم يكون بالياء، ويميله حمزة والكسائي، وهو مثل غَضْبَى وسَكْرَى، ولا يميله أبو عمرو في الوقف، وهذه هي اللغة المشهورة.
فمن نَوّن فله وجهان : أحدهما : أنَّ وزن الكلمة فَعْلٌ كفَلْس فقوله :" تَتْرًى " كقولك : نصرته نَصْراً ؛ ووزنه في قراءتهم " فَعْلاً ".
وقد رُدَّ هذا الوجه، بأنه لم يحفظ جريان حركات الإعراب على رائه، فيقال : هذا تَتْرٌ، ورأيتُ تَتْراً، ومررت بتترٍ، نحو : هذا نصرٌ، ورأيت نصراً، ومررت بنصرٍ، فلمّا لم يحفظ ذلك بَطَلَ أن يكون وزنه (فَعْلاً).
الثاني : أنّ ألفه للإلحاق بِجَعْفَر، كهي في أَرْطَى وَعَلْقَى، فلما نُوّن ذهبت لالتقاء الساكنين وهذا أقرب مما قبله، ولكنه يلزم منه وجود ألف الإلحاق في المصادر، وهو نادر (ومن لم يُنوّن، فله فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أن الألف بدل من التنوين في حالة الوقف.
والثاني : أنها للإلحاق كأَرْطَى وعَلْقَى).
الثالث : أنها للتأنيث كدَعْوَى، وهي واضحة.
٢١٨


الصفحة التالية
Icon