الثاني : أنها منسوقة على " بِمَا تَعْمَلُون " أي : إنِّي عليم بما تعملون وبأنّ هذه، فهذه داخلة في حيز المعلوم.
الثالث : أنّ في الكلام حذفاً تقديره : واعلموا أن هذه أمتكم.
وتقدّم ﴿فَتَقَطَّعُوا ااْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً﴾ وما قيل فيها.

فصل المعنى : وأن هذه ملتكم وشريعتكم التي أنتم عليها أمةً واحدةً، أي : ملة واحدة وهي الإسلام.


فإن قيل : لمّا كانت شرائعهم مختلفة فكيف يكون دينهم واحداً ؟ فالجواب : أنّ المراد من الدين ما لا يختلفون من أصول الدين من معرفة ذات الله وصفاته، وأما الشرائع فإن الاختلاف فيها لا يُسمّى اختلافاً في الدين، فكما يقال في الحائض والطاهر من النساء : إن دينهن واحد وإن افترق تكليفهما فكذا هنا.
وقيل : المعنى : أمرتكم بما أمرت به المرسلين من قبلكم، وأمركم واحد.
﴿وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾ فاحذرون، ﴿فَتَقَطَّعُوا ااْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ﴾ أي : تفرقوا فصاروا فرقاً يهوداً، ونصارى، ومجوساً.
" زُبُراً " أي : فرقاً وقطعاً مختلفة، واحدها (زَبُور)، وهو الفرقة والطائفة، ومثلها " الزُّبْرَة " وجمعها " زُبَر " ومنه " زُبَرَ الحَدِيدِ ".
وقرأ بعض أهل الشام :" زُبَراً " بفتح الباء.
وقال مجاهد وقتادة " زُبراً " أي : كتباً، أي : دان كلّ فريق بكتاب غير الكتاب الذي دان به الآخر.
وقيل : جعلوا كتبهم قطعاً آمنوا بالبعض وكفروا بالبعض وحرّفوا البعض ﴿كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ بما عندهم من الدين معجبون مسرورون.
ولما ذكر تفرقهم في دينهم أتبعه بالوعيد وقال :﴿فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ﴾ وهذا خطاب
٢٢٧
لنبينا - عليه السلام -، أي : دع هؤلاء الكفار في جهلهم.
قوله :" في غَمْرتِهِمْ " مفعول ثان لـ " ذَرْهُمْ " أي : اتركهم مستقرين " في غَمْرَتِهِمْ " ويجوز أن يكون ظرفاً للترك، والمفعول الثاني محذوف.
والغمرة في الأصل الماء الذي يغمر القامة، والمغمر الماء الذي يَغْمُر الأرض ثم استعير ذلك للجهالة، فقيل : فلانٌ في غمرة والمادة تدل على الغطاء والاستتار ومنه الغُمر - بالضم - لمن لم يجرب الأمور، وغُمَار الناس وخمارهم زحامهم، والغِمْر - بالكسر - الحقد، لأنه يغطي القلب، فالغمرات الشدائد، والغامر : الذي يلقي نفسه في المهالك.
وقال الزمخشري : الغمرة الماء الذي يغمر القامة، فضربت لهم مثلاً لما هم فيه من جهلهم وعَمَايَتِهم، او شبهوا باللاعبين في غمرة الماء لِمَا هُمْ عليه من الباطل كقوله :
٣٨٠٠ - كَأَنَّنِي ضَارِبٌ في غَمْرَةٍ لَعِب
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٢٥
وقرأ أمير المؤمنين وأبو حيوة وأبو عبد الرحمن " غمراتهم بالجمع، لأنَّ لكل منهم غمرة تخصه.
وقراءة العامة لا تأبى هذا المعنى، فإنه اسم جنس مضاف.
قوله :" حَتَّى حِين " أي إلى أن يموتوا.
وقيل : إلى حين المعاينة.
وقيل : إلى حين العذاب.
ولمّا كان القوم في نعم عظيمة في الدنيا جاز أن يظنوا أنّ تلك النعم كالثواب المعجل لهم إلى أديانهم، فبيّن سبحانه أنّ الأمر بخلاف ذلك فقال :﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ﴾ أي : أن ما نعطيهم ونجعله مدداً لهم من المال والبنين في الدنيا لـ ﴿نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ﴾ أي : نعجل لهم في الخيرات، ونقدّمها ثواباً بأعمالهم لمرضاتنا عنهم ﴿بَل لاَّ يَشْعُرُونَ﴾ أنّ ذلك استدراج لهم.
قوله :" أَنَّما نُمِدُّهُمْ " في " مَا " ثلاثة أوجه : أحدها : أنها بمعنى الذي، وهي اسم (أنَّ) و(نُمِدُّهُمْ بِهِ) صلتها وعائدها محذوف،
٢٢٨


الصفحة التالية
Icon