وهذا الضلال الذي جعلوه كالعِلّة في إقدامهم على التكذيب إن كان هو نفس التكذيب لزم تعليل الشيء بنفسه، وهو باطل، فلم يبق إلاّ أن يكون ذلك الضلال (عبارة عن شيء آخر ترتب عليه فعلهم، وما ذلك إلاّ خلق الداعي إلى الضلال).
ثم إنّ القوم لما اعتذرُوا بهذين العُذرين، قالوا :﴿رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا﴾ أي : من النار " فَإِنْ عُدْنَا " لما أنكرنا " فَإِنَّا ظَالِمُونَ " فعند ذلك أجابهم الله تعالى فقال :﴿اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ﴾.
فإن قيل : كيف يجوز أن يطلبوا الخروج وقد علموا أنَّ عقابهم دائم ؟ قلنا : يجوز أن يلحقهم السهو عن ذلك في أحوال شدة العذاب فيسألون الرجعة.
ويحتمل أن يكون مع علمهم بذلك يسألون على وجه الغوث والاسترواح.
قوله :" اخْسَئُوا فِيهَا " أقيموا فيها، كما يقال للكلب إذا طُرد اخسأ ؛ أي : انزجر كما تنزجر الكلاب إذا زُجرت، يقال : خسأ الكلب وخَسَأَ بِنَفْسِه.
" وَلاَ تُكَلمون " في رفع العذاب فإِنّي لا أرفعه عنكم، وليس هذا نهياً، لأنّه لا تكليف في الآخرة.
قال الحسن : هو آخر كلام يتكلم به أهل النار، ثم لا يتكلّمون بعده إلا الشهيق والزفير.
ويصير لهم عواء كعواء الكلب لا يَفْهَمُون ولا يُفْهمُون.
قوله تعالى :﴿إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي﴾ الآية.
العامة على كسر همزة (إِنَّهُ) استئنافاً.
وأُبّي والعتكي : بفتحها أي : لأنه والهاء ضمير الشأن.
قال البغوي : الهاء في إنه عماد، وتسمى المجهولة أيضاً.
قوله :" فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرياً " قرأ الأخوان ونافع هنا وفي ص بكسر السين.
والباقون : بضمها في المَوْضعين.
و(سِخْريًّا) مفعول ثان للاتخاذ.
واختلف في معناها فقال الخليل
٢٦٤
وسيبويه والكسائي وأبو زيد : هما بمعنى واحد نحو دُريّ ودِريّ، وبَحْر لُجِّي ولِجِّي بضم اللام وكسرها.
وقال يونس : إن أريد الخدمة والسخرة فالضم لا غير، وإن أريد الهزء فالضم والكسر ورَجّح أبو عليّ وتَبعه مكي قراءة الكسر، قالا : لأنّ ما بعدها أَلْيَق لها لقوله :﴿وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ﴾.
ولا حجة فيه، لأنّهم جمعوا بين الأمرين سَخروهم في العمل، وسَخِرُوا منهم استهزاءً.
والسُّخْرَة بالتاء الاستخدام وسُخْرِيًّا بالضم منها، والسُّخْر بدونها الهُزء والمكسور منه، قال الأعشى : ٣٨١٣ - إِنِّي أَتَانِي حَدِيثٌ لاَ أُسَرُّ بِهِ
مِنْ علْو لاَ كذبٌ فِيهِ ولاَ سَخَرُ
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٦٢
ولم يختلف السبعة في ضم ما في الزخرف، لأنّ المراد الاستخدام، وهو يُقوِّي قول من فرّق بينهما، إلاَّ أنَّ ابن محيصن وابن مسلم وأصحاب عبد الله كَسَرُوه أيضاً، وهي مُقَوية لقول من جعلهما بمعنى والياء في سُخْريًّا وسِخْريًّا للنسب زيدت
٢٦٥
للدلالة على قوة الفعل، فالسُّخْريّ أقوى من السُّخْر، كما قيل في الخصوص خُصُوصيّة دلالة على قوة ذلك.
قال معناه الزمخشري.
فصل اعلم أنّه تعالى قرعهم بأمر يتصل بالمؤمنين قال مقاتل : إن رؤوس قريش مثل أبي جهل، وعقبة وأبيّ بن خلف، كانوا يستهزؤون بأصحاب محمدٍ، ويضحكون بالفقراء منهم، كبلال، وخباب، وعمّار، وصهيب، والمَعْنى : اتخذتموهم هزواً " حَتَّى أَنْسَوْكُمْ " بتشاغلكم بهم على تلك الصفة ﴿ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ﴾ ونظيره :﴿إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ﴾ [المطففين : ٢٩] ثم إنّه تعالى ذكر ما يوجب أسفهم وخسرانهم بأَنْ وصف ما جازى به أولئك فقال :﴿جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا ااْ﴾ أي : جزيتهم اليوم الجزاء الوافر.
قوله :﴿أَنَّهُمْ هُمُ الْفَآئِزُونَ﴾ قرأ الأخوان بكسر الهمزة، استئنافاً.
والباقون بالفتح، وفيه وجهان : أظهرهما : أنَّه تعليل فيكون نصباً بإضمار الخافض أي : لأنهم هم الفائزون، وهي موافقة للأُولى فإنّ الاستئناف يعلل به أيضاً.
والثاني : قاله الزمخشري، ولم يذكر غيره، أنه مفعول ثان لـ " جَزَيْتُهُمْ " أي : بأنهم أي : فوزهم وعلى الأَوّل يكون المفعول الثاني محذوفاً.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٦٢


الصفحة التالية
Icon