" لَعَلَّ الله نظرَ إلى أهل بدر فقال : اعمَلُوا ما شِئْتُم، فقد غفرت لكم " فكيف صدرت الكبيرة منه بعد أن كان بدريًّا ؟ والجواب : أنه لا يجوز أن يكون المراد منه : افعلوا ما شئتم من المعاصي، فيأمر بها، لأنا نعلم بالضرورة أن التكليف كان باقياً عليهم، ولو حملناه على ذلك لأفضى إلى زوال التكليف عنهم، ولو كان كذلك لما جاز أن يحدّ مِسْطح على ما فعل، فوجب حمله على أحد أمرين : الأول : أنه تعالى علم توبة أهل بدر فقال : افعلوا ما شئتم من النوافل من قليل أو كثير، فقد غفرت لكم وأعطيتكم الدرجات العالية في الجنة.
والثاني : أن يكون المراد أنهم يوافون بالطاعة، فكأنه تعالى قال : قد غفرتُ لكم لعلمي بأنَّكم تموتون على التوبة والإنابة، فذكر حالهم في الوقت وأراد العاقبة.
فصل دلت الآية على أن (الأيمان على) الامتناع من الخير غير جائز، وإنما يجوز إذا حصلت داعية صارفة عنه.
فصل مذهب الجمهور أنَّ من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها، أنه ينبغي له أن يأتي الذي هو خير ثم يكفر عن يمينه.
وقال بعضهم : إنه يأتي بالذي هو خير، وذلك هو كفارته، لأن الله تعالى أمر أبا بكر بالحنث ولم يوجب عليه كفارة.
ولقوله عليه السلام :
٣٣٦
" مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فرأى غيرها خيراً مِنْهَا فليأتِ الذي هو خير، وذلك كفارته ".
واحتج الجمهور بقوله تعالى :﴿وَلَـاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ﴾ [المائدة : ٨٩]، وقوله :﴿ذالِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ﴾ [المائدة : ٨٩]، وقوله لأيوب - عليه السلام - :﴿وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ﴾ [ص : ٤٤] وقد علمنا أن الحنث كان خيراً من تركه، ولو كان الحنث فيها كفارتها لما أمر بضربها، بل كان يحنث بلا كفارة، وقال عليه السلام :" مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمينٍ فرَأَى غيرَها خيراً منْهَا فليأتِ الَّذِي هو خيرٌ وليكفِّرْ عن يمينه ".
وأما قولهم : إنَّ الله تعالى لم يذكر الكفارة في قصة أبي بكر، فإن حكمها كان معلوماً عندهم.
وأما قوله عليه السلام :" وليأت الذي هو خير، وذلك كفارته " فمعناه : تكفير الذنب لا أنه الكفارة المذكورة في الكتاب.
فصل روي عن عائشة أنها قالت :" فَضِلْتُ على أزواج النبي بعشر خصال : تزوج رسول الله بي بكراً دون غيري، وأبواي مهاجران، وجاء جبريل بصورتي وأمره أن يتزوج بي، وكنت أغتسل معه في إنائه، وجبريل ينزل عليه وأنا معه في لحاف، وتزوج في شوال، وبنى بي في ذلك الشهر وقبض بين سحري ونحري، وأنزل الله عذري من السماء، ودفن في بيتي، وكل ذلك لم يساوني فيه غيري ".
وقال بعضهم :" لقد برَّأ الله أربعة بأربعة : بَرأ يوسف ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ﴾ [يوسف : ٢٦]، وبرأ موسى من قول اليهود بالحجر الذي ذهب بثوبه، وبرأ مريم بإنطاق ولدها، وبرأ عائشة بهذه الآيات في كتابه المتلو على وجه الدهر ".
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٣٣٢
قوله :﴿إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ﴾ العفائف " الغَافِلاَت " عن الفواحش " المُؤْمِنَاتِ " والغافلة عن الفاحشة أي : لا تقع في مثلها، وكانت عائشة كذلك، فقال
٣٣٧
بعضهم : الصيغة عامة، فيدخل فيه قَذَفَةُ عائشة وغيرها.
وقيل : المراد قذفة عائشة.
قالت عائشة : رميت وأنا غافلة، وإنما بلغني بعد ذلك، فبينا رسول الله عندي إذ أوحى إليه، قال :" أبشري " وقرأ :﴿إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ﴾.
وقيل : المراد جُملة أزواج رسول الله، وأنهن لشرفهن خصصن بأن من قذفهن فهذا الوعيد لاحقٌ به.
واحتج هؤلاء بأمور : الأول : أن قاذف سائر المحصنات تقبل توبته لقوله في أول السورة :﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ﴾ [النور : ٤] إلى قوله :﴿إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ...
﴾ [النور : ٥].
وأما القاذف في هذه الآية فإنه لا تقبل توبته لقوله تعالى :﴿لُعِنُواْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ﴾ ولم يذكر استثناء.
وأيضاً فهذه صفة المنافقين في قوله :﴿مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا ااْ﴾ [الأحزاب : ٦١].
الثاني : أن قاذف سائر المحصنات لا يكفر، والقاذف في هذه الآية كافر، لقوله :﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ...
﴾ وذلك صفة الكفار والمنافقين لقوله :﴿وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ...
﴾ [فصلت : ١٩] الآيات.
الثالث : أنه قال :﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ والعذاب العظيم هو عذاب الكفر، (فدلّ على أن عذاب هذا القاذف عقاب الكفر).
وعقاب قذف سائر المحصنات لا يكون عقاب الكفر.
وروي أن ابن عياش كان بالبصرة يوم عرفة، وكان يسأل عن تفسير هذه الآية، فقال :" من أذنب ثم تاب قبلت توبته إلا من خاض في أمر عائشة ".
وأجاب الأولون بأن الوعيد المذكور في هذه الآية لا بد وأن يكون مشروطاً بعدم التوبة، لأن الذنب سواء كان كفراً أو فسقاً، فإذا تاب عنه صار مغفوراً.
٣٣٨