أصابها فلها المهر بما استحلَّ من فرجها، فإن اشتجروا فالسلطان وليُّ (من لا وليّ له).
قوله :﴿إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ﴾ الأصح أن هذا ليس وعداً بإغناء من يتزوج، بل المعنى : لا تنظروا إلى فقر من يخطب إليكم، أو فقر من تريدون تزويجها، ففي فضل الله ما يغنيهم، والمال غادٍ ورائح، وليس في الفقر ما يمنع من الرغبة في النكاح، فهذا معنى صحيح، وليس فيه أن الكلام قصد به وعد الغنى حتى لا يجوز أن يقع فيه خلف.
وروي عن قدماء الصحابة ما يدلّ على أن ذلك وعد، فروي عن أبي بكر قال :" أطيعُوا اللَّهَ فيما أمركُم به من النكاح ينجز لكم ما وَعَدكُم من الغِنَى ".
وعن عمر وابن عباس مثله.
وشكى رجل إلى رسول الله - ﷺ - الحاجة، فقال :" عليك بالباءة "، ويزيد الله في مروءتكم.
فإن قيل : فنحن نرى من كان غنياً فتزوج فيصير فقيراً ؟ فالجواب من وجوه : أحدها : أن هذا الوعد مشروط بالمشيئة في قوله :﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ﴾ [التوبة : ٢٨] والمطلق يحمل على المقيد.
وثانيها : أن اللفظ وإن كان عامّاً إلا أنه يخصّ بعض المذكورين دون البعض، وهو في الأيامى الأحرار الذين يملكون فيستغنون بما يملكون.
وثالثها : المراد بالغنى : العفاف، فيكون الغنى هنا معناه : الاستغناء بالنكاح عن الوقوع في الزنا.
فصل استدل بعضهم بهذه الآية على أن العبد والأمة يملكان، لأن ذلك راجع إلى كل من تقدم، فاقتضى أن العبد قد يكون فقيراً وغنياً، وذلك دل على الملك، فثبت أنهما يملكان.
والمفسرون تأولوه على الأحرار خاصة، فقالوا : هو راجع إلى الأيامى، وإن فسرنا الغنى بالعفاف سقط استدلالهم.
٣٦٨
وقوله :﴿وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ أي يوسع عليهم من أفضاله، " عَلِيمٌ " بمقادير ما يصلحهم من الإفضال والرزق.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٣٦٣
قوله :﴿وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً﴾ الآية.
لما ذكر تزويج الحرائر والإماء ذكر حال من يعجز عن ذلك فقال :" وَلْيَسْتَعْفِفِ " أي : وليجتهد في العفة، كأن المستعفف طالب من نفسه العفاف.
وقوله :﴿لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً﴾ أي : لا يتمكنون من الوصول إليه، يقال : لا يجد المرء الشيء إذا لم يتمكن منه، قال تعالى :﴿فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ﴾ [النساء : ٩٢] ويقال : هو غير واجد للماء، وإن كان موجوداً، إذا لم يمكنه أن يشتريه.
ويجوز أن يراد بالنكاح : ما ينكح به من المال، فبين تعالى أن من لا يتمكن من ذلك فليطلب التعفف ولينتظر أن يغنيه الله من فضله ثم يصل إلى بغيته من النكاح.
فإن قيل : أفليس ملك اليمين يقوم مقام نفس النكاح ؟ قلنا : لكن من لم يجد المهر والنفقة فبأن لا يجد ثمن الجارية أولى.
قوله تعالى :﴿وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ...
الآية لما بعث السيد على تزويج الصالحين من العبيد والإماء مع الرق رغبهم في أن يكاتبوهم إذا طلبوا ذلك ليصيروا أحراراً فيتصرفون في أنفسهم كالأحرار، فقال :﴿وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ﴾.
يجوز في الذين الرفع على الابتداء، والخبر الجملة المقترنة بالفاء لما تضمنه المبتدأ من معنى الشرط.
ويجوز نصبه بفعل مقدر على الاشتغال، كقولك :" زيداً فاضربه " وهو أرجح لمكان الأمر.
والكتاب والكتابة كالعتاب والعتابة، وفي اشتقاق لفظ الكتابة وجوه :
٣٦٩
أحدها : أن أصل الكلمة من الكتب، وهو الضم والجمع، ومنه سميت الكتابة لأنها تضم النجوم بعضها إلى بعض، وتضم ماله إلى ماله.
وثانيها : مأخوذ من الكتاب، ومعناه : كتبت لك على نفسي (أن تعتق إذا وفيت بمالي وكتبت لي على نفسي) أن تفي لي بذلك، أو كتبت عليك الوفاء بالمال، وكتبت عليَّ العتق، قاله الأزهري.
وثالثها : سمي بذلك لما يقع فيه من التأجيل بالمال المعقود عليه، لأنه لا يجوز أن يقع على مال هو في يد العبد حين يكاتب، لأن ذلك مال لسيده اكتسبه في حال ما كانت يد السيد غير مقبوضة عن كسبه، فلا يجوز لهذا المعنى أن يقع هذا العقد حالاً، بل يقع مؤجلاً، ليكون متمكناً من الاكتساب.
ثم من آداب الشريعة أن يكتب على من عليه المال المؤجل كتاب، فلهذا المعنى سمي هذا العقد كتاباً لما فيه من الأجل، قال تعالى :﴿لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ﴾ [الرعد : ٢٨].
فصل قال بعض العلماء : الكتابة أن يقول لمملوكه : كاتبتك على كذا، ويسمي مالاً معلوماً، يؤديه في نجمين أو أكثر، ويبين عدد النجوم، وما يؤدي في كل نجم، ويقول : إذا أديت ذلك المال فأنت حر، أو ينوي ذلك بقلبه، ويقول العبد : قبلت.
فإذا لم يقل بلسانه، أو لم ينو بقلبه : إذا أديت ذلك فأنت حر، لم يعتق.
وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابه : لا حاجة إلى ذلك، لأن قوله تعالى :" فَكَاتِبُوهُمْ " ليس فيه شرط، فتصح الكتابة بدون هذا الشرط، وإذا صحت الكتابة وجب أن يعتق بالأداء للإجماع.
واحتج الأولون بأن الكتابة ليست عقد معاوضة
٣٧٠


الصفحة التالية
Icon