قوله :" مِنْ شَجَرَةٍ " مِنْ لابتداء الغاية، وثمَّ مضافٌ محذوفٌ، أي : من زيت (شَجَرَةٍ).
و " زَيْتُونَةٍ " فيها قولان : أشهرهما : أنها بدل من " شَجَرَةٍ ".
الثاني : أنها عطف بيانٍ، وهذا مذهب الكوفيين، وتبعهم أبو علي.
وتقدم هذا في قوله :﴿مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ﴾ [إبراهيم : ١٦].
قوله :" لاَ شَرْقِيَّةٍ " صفة لـ " شجرةٍ " ودخلت " لاَ " لتفيد النفي.
وقرأ الضَّحَّاكُ بالرفع على إضمار مبتدأ، أي : لاَ هِيَ شَرْقِيةٌ، والجملة أيضاً في محل جر نعتاً لـ " شَجَرَةٍ ".
(قوله :" يَكَادُ " هذه الجملة أيضاً نعت لـ " شَجَرَةٍ " ).
قوله :﴿وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ﴾ جوابها محذوف، أي : لأضاءت، لدلالة ما تقدم عليه، والجملة حالية.
وتقدم تحرير هذا في قولهم : أعطوا السائل وَلَوْ جاء على فَرَسٍ.
وأنها لاستقصاء الأحوال حتى في هذه الحالة.
وقرأ ابن عباس والحسن :" يَمْسَسْهُ " بالياء، لأن التأنيث مجازي، ولأنه قد فصل بالمفعول أيضاً.
فصل في كيفية هذا التمثيل قال جمهور المتكلمين : معناه : أن هداية الله قد بلغت في الظهور والجلاء إلى أقصى الغايات، وصار ذلك بمنزلة المشكاة التي يكون فيها زجاجة صافية، وفي الزجاجة مصباح (يتّقد بزيت) بلغ النهاية في الصفاء.
فإن قيل : لم شبهه بذلك مع أن ضوء الشمس أعظم منه ؟
٣٨٦
فالجواب : أنه تعالى أراد أن يصف الضوء الكامل الذي يلوح وسط الظلمة، لأن الغالب على أوهام الخلق وخيالاتهم إنما هو الشبهات التي هي كالظلمات (وهداية الله تعالى فيما بينها كالضوء الكامل الذي يظهر فيما بين الظلمات) وهذا المقصود لا يحصل من ضوء الشمس، لأن ضوءها إذا ظهر امتلأ العالم من النور الخالص، وإذا غاب امتلأ العالم من الظلمة الخالصة، فلا جرم كان هذا المثل أليق وأوفق.

فصل اعلم أن الأمور التي اعتبرها الله تعالى في هذه المثل توجب كمال الضوء.


فأولها : أن المصباح إذا لم يكن في المشكاة تفرقت أشعته، أما إذا وضع في المشكاة اجتمعت أشعته فكانت أشد إنارة، ويحقق ذلك أن المصباح ينعكس شعاعه من بعض جوانب الزجاجة إلى البعض، لما في الزجاجة من الصفاء والشفافة، فيزداد بسبب ذلك الضوء والنور، والذي يحقق ذلك أن شعاع الشمس إذا وقع على الزجاجة الصافية تضاعف النور الظاهر، حتى إنه يظهر فيما يقابله مثل ذلك الضوء، فإذا انعكست تلك الأشعة من كل جانب من جوانب الزجاجة إلى الجانب الآخر كثرت الأنوار والأضواء وبلغت النهاية.
وثانيها : أن ضوء المصباح يختلف بحسب اختلاف ما يتقد فيه، فإذا كان الدهن صافياً خالصاً كانت حاله بخلاف حاله إذا كان كدراً، وليس في الأدهان التي توقد ما يظهر فيه من الصفاء مثل الذي يظهر في الزيت، فربما بلغ في الصفاء والرقة مبلغ الماء مع زيادة بياض فيه وشعاع يتردد في أجزائه.
وثالثها : أن الزيت يختلف باختلاف شجرته، فإذا كانت لا شرقية ولا غربية بمعنى أنها كانت بارزة للشمس (في كل حالاتها يكون زيتونها أشد نضجاً، فكان زيته أكثر صفاءً، لأن زيادة تأثير الشمس) تؤثر في ذلك، فإذا اجتمعت هذه الأمور وتعاونت صار ذلك الضوء خالصاً كاملاً، فيصلح أن يجعل مثلاً لهداية الله تعالى.
فصل قال بعضهم :" هذه الآية من المقلوب والتقدير : مثل نوره كمصباح في مشكاة، لأن المشبه به هو الذي يكون معدناً للنور ومنبعاً له، وذلك هو المصباح لا المشكاة ".

فصل قال مجاهد :" المِشْكَاة " : القنديل، والمعنى : كمصباح في مشكاة.


المصباح في
٣٨٧


الصفحة التالية
Icon