قوله تعالى :﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ الآية.
لما وصف أنوار قلوب المؤمنين وظلمات قلوب الجاهلين أتبع ذلك بدلائل التوحيد.
والمعنى : ألم تعلم، لأن التسبيح لا يرى بالبصر بل يعلم بالقلب، وهذا استفهام والمراد به : التقرير والبيان.
قال ابن الخطيب :" إما أن يكون المراد من هذا التسبيح دلالته بخلق هذه الأشياء على كونه تعالى منزهاً عن النقائص، موصوفاً بنعوت الجلال، أو يكون المراد منه في حق البعض الدلالة على التنزيه وفي حق الباقين النطق باللسان.
والأول أقرب، لأن القسم الثاني متعذر، لأن في الأرض من لا يكون مكلفاً لا يسبح بهذا المعنى والمكلفون منهم فمن لا يسبح أيضاً بهذا المعنى كالكفار.
وأما القسم الثاني وهو أن يقال : إن من في السموات وهم الملائكة يسبحون باللسان وأما الذين في الأرض فمنهم من يسبح على سبيل الدلالة، فهذا يقتضي استعمال اللفظ الواحد في الحقيقة والمجاز معاً، وهو غير جائز، فلم يبق إلا
٤٠٩
القسم الأول، وهو أن هذه الأشياء مشتركة في أن أجسامها وصفاتها دالة على تنزيه الله تعالى وقدرته وإلاهيته وتوحيده وعدله، فسمى ذلك تنزيهاً توسعاً.
فإن قيل فالتسبيح بهذا المعنى حاصل بجميع المخلوقات فما وجه تخصيصه هاهنا بالعقلاء ؟ قلنا : لأن خلقة العقلاء أشد دلالة على وجود الصانع سبحانه، لأن العجائب والغرائب في خلقهم أكثر، وهي العقل والنطق والفهم ".
قوله :" والطَّيرُ ".
قرأ العامة :" والطّيْر " رفعاً، " صَافَّاتٍ " نصباً.
فالرفع عطف على " مَنْ " والنصب على الحال.
وقرأ الأعرج :" والطَّيْرَ " نصباً على المفعول معه على الابتداء والخبر، ومفعول " صَافَّات " محذوف، أي : أجنحتها.
قوله :﴿كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ﴾ في هذه الضمائر أقوال : أحدها : أنَّها كلَّها عائدةٌ على " كُلٌّ "، أي : كلٌّ قد عَلِمَ هُوَ صَلاَةَ نَفْسِهِ وتَسْبِيحَهَا، وهذا أولى لتوافق الضمائر.
الثاني : أن الضمير في " عَلِمَ " عائد إلى الله تعالى، وفي " صَلاَتَهُ وتَسْبِيحَهُ " عائد على " كُلٌّ "، ويدل عليه قوله تعالى :﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾.
الثالث : بالعكس، أي : عَلِمَ كلٌّ صلاةَ اللَّه وتَسْبِيحَه، أي : اللذين أمَرَ بهما وبأن يُفْعَلاَ، كإضافة الخلق إلى الخالق، وعلى هذا فقوله :" واللَّه علِيمٌ " استئناف.
ورَجَّحَ أبو البقاء ألاَّ يكون الفاعل ضمير " كُلٌّ " قال :" لأنَّ القراءة برفع " كُلٌّ " على الابتداء فيرجع ضمير الفاعل إليه، ولو كان فيه ضمير الله لكان الأولى نصب (كُلّ) لأن الفعل الذي بعدها قد نصب ما هو من سببها فيصير كقولك :(زَيْداً ضَرَبَ عَمْرٌو وغُلاَمه) فتنصب (زيداً) بفعل دلَّ عليه ما بعده، وهو أقوى من الرفع، والآخر جائز ".
قال شهاب
٤١٠
الدين : وليس كما ذكر من ترجيح النصب على الرفع في هذه الصُّورة ولا في هذه السورة، بل نصَّ النحويون على أنَّ مثل هذه الصورة يرجَّح رفعها بالابتداء على نصبها على الاشتغال، لأنه لم يكن ثمَّ قرينة من القرائن التي جعلوها مرجحةً للنصب، والنصب يحوجُ إلى إضمار، والرفع لا يحوج إليه، فكان أرجح.
وقرأت فرقة :﴿عُلِمَ صَلاَتُهُ وتَسْبِيحُهُ﴾ بالرفع وبناء الفعل للمفعول الذي لم يسم فاعله.
ذكرها أبو حاتم.
فصل وجه اتصال هذا بما قبله أنه تعالى لما ذكر أن أهل السموات والأرض يسبحون، ذكر المستقرين في الهواء الذي هو بين السماء والأرض، وهم الطير يسبحون، وذلك أن إعطاء الجرم الثقيل القوة التي بها يقوى على الوقوف في جو السماء صافة باسطة أجنحتها بما فيها من القبض والبسط من أعظم الدلائل على قدرة الصانع المدبر سبحانه، وجعل طيرانها سجوداً منها له سبحانه، وذلك يؤيد أن المراد من التسبيح دلالة هذه الأمور على التنزيه (لا النطق) اللساني.
وقال أبو ثابت :" كنت جالساً عند أبي جعفر الباقر فقال لي : أتدري ما تقول هذه العصافير عند طلوع الشمس وبعد طلوعها ؟ (قال : لا) قال : فإنهن يقدسن ربهن ويسألنه قوت يومهن ".
واستبعد المتكلمون ذلك فقالوا : الطير لو كانت عارفة بالله لكانت كالعقلاء الذين يفهمون كلامنا وإشارتنا، لكنها ليست كذلك، فإنا نعلم بالضرورة بأنها أشد نقصاناً من الصبي الذي لا يعرف هذه الأمور، فبأن يمتنع ذلك فيها أولى، وإذا ثبت أنها لا تعرف الله استحال كونها مسبحة له بالنطق، فثبت أنها لا تسبح الله إلا بلسان الحال كما تقدم.
قال بعض العلماء : إنا نشاهد من الطيور وسائر الحيوانات أعمالاً لطيفة يعجز عنها أكثر العقلاء، وإذا كان كذلك (فلِمَ لا) يجوز أن يلهمها معرفته ودعاءه وتسبيحه ؟ وبيان أنه سبحانه ألهمها الأعمال اللطيفة من وجوه :
٤١١


الصفحة التالية
Icon